صديقي عندما كان صغيرا / حامد علي عبد الرحمن
لا أدري لماذا تذكرت كلام أحد الأصدقاء رغم مرور زمن ليس باليسير على تلك الدرر ، صديقي هذا ليس كبيرا في السن إنه في الثلاثينات ولكنه من الصالحين المجتهدين ولا نزكي على الله أحدا ، لا يترك طريقا يقربه من الله إلا وسلكه ..
يقول صديقي وهو يتحدث عن ذكريات طفولته : عندما كنت صغيرا كنّا نسافر مع الوالد رحمه الله إلى مكة للعمرة كنت استعجله للخروج من الحرم فور الانتهاء من مناسك العمرة يقول كان أبي رحمه الله يرغب أن يستزيد من الصلاة بل لا يمل من الركوع والسجود والجلوس في الحرم ولكني كنت ألح عليه في الخروج بأسرع وقت ممكن .
يقول أيضا : عندما كنت صغيرا كان الوالد رحمه الله يسبقنا أنا وإخواني إلى المسجد ويطلب منا اللحاق به وعدم التأخر ، يقول كنّا نضيّع الوقت هنا وهناك حتى تقام الصلاة وإذا كُتب ودخل أحدنا إلى المسجد قبل الصلاة يتهرب ويتملل من صلاة الركعتين تحية المسجد أو النافلة يتهرب وكأنها واجب ثقيل أو عمل شاق رغم أنها لا تأخذ أكثر من ثلاث دقائق لمن أتقنها .
ويقول أيضا كان الوالد والوالدة رحمهما الله يصومان الإثنين والخميس أو الأيام البيض وكنت أنظر إلى ذلك على أنه عمل غير عادي وشاق .. كنت اتساءل كيف يستطيعون فعل ذلك رغم كبر سنهما . أنا بالكاد أصوم رمضان رغم أني نصف النهار أو ثلاثة أرباعه نائم .
يقول أيضا كان للوالد رحمه زاوية في البيت يجلس يقرأ القرآن كان يجلس أحيانا بالساعات، من العصر إلى المغرب أو من بعد الفجر إلى شروق الشمس .. كنت أتعجب من صبره وجلده رغم ضعف بصره وكثرة مشاغله .. الغريب أني كنت أبذل مثل جهده أو قريب منه في قراءة كتاب أو رواية أو قصة .
يقول حين كنت صغيرا لم أكن أدرك أو أفهم أهمية ما كان يفعله أبي .. الآن أدركت كل شيء وعرفت كل شيء .. عندما كبرت وتعلمت أدركت أهمية ما كان يفعله .
يقول حين كنت صغيراً .. كان عقلي صغيراً ، وفهمي صغيراً ، ونظري قصيراً .. لم أكن أفهم ولم أكن أهتم ولم أكن حريصاً .. أما عندما كبرت وكبر عقلي وزاد فهمي أدركت أين السعادة وأين القوة .
أدركت أن أبي فهم وآمن بقوله تعالى : أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ .
عندما توفي أبي أدركت مقدار ذكاءه حيث أدرك حقارة الدنيا
أدركت أن أبي كان يبني له منزلا ومكانا عظيما في مكان آخر
عندما توفي أبي أدركت أن الزمن لا شيء وأنه سوف يمضي سريعاً وسينتهي الجهد والتعب ويبقى الأجر وستنقضي أيضا اللذات وسيبقى الإثم .
رحم الله والديّ ووالديّ صديقي ووالديكم وغفر لهم وأسكنهم فسيح جناته ..
أقول : هذه نتيجة حتمية للنضج وللعقل .. ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ )
كلما زاد علم الإنسان زادت خشيته لله .
والمتأمل يرى العجب العجاب بين البشر .. هناك من يسبق عمره نضجاً وفهماً وعقلاً .. وهناك من يتأخر كثيراً عن عمره .
البعض يصل إلى الأربعين والخمسين والستين من عمره وكأنه طفل صغير أو مراهق كبير .. أثقل شيء عليه الصلاة وأثقل شيء عليه صيام التطوع واثقل شيء عليه قراءة القرآن .. يتجاوز الأربعين وهو أضعف من أن يترك عادة سلبية أو أن يتعلم عادة إيجابية . البعض يتجاوز الأربعين وهو يحمل عقلا صغيرا مثل عقل صديقي عندما كان صغيرا .
والد صديقي أشبه ما يكون بذلك الطالب المجتهد ليلة الاختبار وليس أي اختبار .. من يلوم الطالب في ليلة الاختبار إذا بذل كل جهده وأخذ بكل وسيلة للاستعداد؟ من يلومه إذا استعد لكل سؤال؟ لا يلومه إلا غبي جاهل .
ومثل والد صديقي مثل الذي يستعد لسفر طويل ورحلة شاقة لا يعلم ماذا سيقابل وكم ستدوم وما هي المخاطر ، من يلومه إذا بذل جهده في جمع العدة والعتاد؟ من يلومه إذا جمع المؤنة وأكثر؟ من يلومه إذا اهتم بكل التفاصيل صغيرها وكبيرها دقيقها وجليلها .
من يلوم المؤمن إذا حافظ على الصلاة في المسجد؟ من يلومه إذا صام تطوعاً؟ من يلومه إذا أكثر من قراءة القرآن؟ من يلومه إذا ترك الغيبة والنميمة؟ من يلومه إذا ترك الحسد؟ من يلومه إذا اهتم بالتفاصيل واستن بسنة النبي فأطلق لحيته وقصر شاربه؟ من يلومه إذا صان سمعه وبصره عن الحرام؟ من يلومه إذا أحذ احتياطاته؟ . لا يلومه إلا غبي جاهل .
البعض يصل إلى الأربعين والخمسين والستين من عمره وكأنه صديقي عندما كان صغيرا .
كتبها / حامد علي عبد الرحمن
للمزيد عن الكاتب انقر فوق الاسم
التعليقات