المسكون 2 / حامد علي عبد الرحمن
رابط الجزء الأول
هيا يا صاحبي أكمل .. كثرة الرسائل التي وصلت وحميميتها وكلماتها الطيبة وحرصها وأملها في إكمال القصة كل ذلك لم يدع لك مجالا للإعتذار ..
يجيب ..
ربما كان تفاعلهم هذا .. لعلمهم أنها قصة حقيقية حدثت فعلا قبل أكثر من عشرين عاما .. و (( ما كل ما يُعلم يقال يا صديقي )) أو بمعنى أصح ما كل ما يُعلم أو يُشعر به يُستطاع التعبير عنه .. ولو تحدثت سأتحدث بلغة لن يفهمها الكثير .. الناس تبحث عن الدراما والأحداث .. لا يريدون أن يُعملوا عقولهم ولو قليلا ..
- أخبرني .. وأنا سوف أعيد صياغتها بطريقة سهلة ومفهومة قدر المستطاع واسمح لي بالإضافة والتعديل حسب ما أراه مناسباً وحسب ما يقتضيه السرد دون الإخلال بأصل القصة .. هيا .. (( إذا لم نقرأ يا صديقي إلاّ ما نحب .. فلن نتعلم )) .. غير ذلك .. نحن نكتب للكتابة نفسها وللعلم والفائدة .. وليس بالضرورة أن يفهم الكل .. بل إنه من المستحيل أن يفهم الكل .. يكفي أن تصل الفكرة إلى القليل ..
ألم تقرأ قول البحتري ..
عَليّ نَحْتُ القَوَافي مِنْ مَقَاطِعِها، وَمَا عَليّ لَهُم أنْ تَفهَمَ (.....)
فلا تضيع الوقت ولا تتهرب ولتبدأ واعلم أن ما تشعر به هو إحساس وشعور الجميع ، الفرق في القدرة على التعبير .. هذه التناقض .. وهذا التذبذب .. وهذا الانكسار .. وهذا الضعف .. إنها عوامل مشتركة بين البشر وهذا ما جعلهم يهتمون بالنهاية ويحرصون عليها ..
كأن صاحبي بعد كلامي هذا اقتنع وانفتحت نفسه للحديث ..
وقبل أن يشرع في الحديث أكد على أن الله رؤوف رحيم .. واسع المغفرة .. بل إنه أرحم وألطف وأكرم مما نتخيل تكفي الواحد منا إذا أذنب التوبة الصادقة والاستغفار لتغفر ذنوبه وتقبل توبته .. لا نحتاج أن نعرّض أنفسنا للتهلكة أو نغامر بأروحنا .. وهذه الرحلة ورغم أن فيها جانب روحاني إلا أن فيها أيضا جوانب أخرى يهتم بها صاحبنا .. ليست كلها روحانية بل رياضة .. وسياحة .. واكتشاف .. وتجربة .. ولا شك أنها مفيدة جدا وأكثر تأثيرا وأعمق ولكن لا بد أن تتوفر الشروط اللازمة في كل من يقوم بها .. نفسيا وجسديا .. ولا بد من أخذ كل وسائل الأمان ..
أما من يريد العزلة والخلوة فقط .. فالاعتكاف في أحد المساجد .. وليس بالضرورة أن يقضي وقتا طويلا.. من العصر إلى المغرب خلوة .. ومن المغرب إلى العشاء خلوة .. ومن بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس خلوة .. أو بإمكانه أن يذهب في عمرة إلى بيت الله الحرام .. أو زيارة إلى المسجد النبوي ويعتكف هناك .. كل ذلك يفي بالغرض ويأتي بنتائج عجيبة في تهذيب النفس وتنقيتها وتحقق المطلوب .
العزلة الخلوة والتفكر والتأمل .. ضرورة جدا لكل عاقل ..
ماذا حدث لصاحبنا بعد ذلك ؟
صلى المغرب وكانت صلاة مختلفة في كل شيء كما أشرنا حتى في الأذكار التي بعد الصلاة .. الوحدة .. والظلام .. والخوف هي السبب .. تناول العشاء .. وأخرج سكّينهُ وتشاغل في تهذيب عصاً غليظةٍ أخذها من الطريق .. وسارت الأمور تقريبا بشكل طبيعي إلى حد ما إلى ما بعد صلاة العشاء ..
أتيك هاربا من كل شيء ... لأنك كل شيء في حياتي
ــــ
كانت لقلبي أهواء مفرقة ... فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي
ـــــ
كان يفكر في الوصول .. واستعرض ما علق في ذهنه من الكتب التي قرأها.. آيات .. أحاديث .. تداعت إليه أيضا الكتب التي يزعم أصحابها أنهم أهل صنعة في هذا الجانب .. مثل المدارج .. والمعارج .. والصدق.. والطريق .. والحكم .. والرسالة .. الخ
بحث في كل ذلك أقصد الكتب غير القرآن والسنة .. لعله يجد برنامجا أو طريقة واضحة أو عملا محددا .. لم يجد ما يعتمد عليه و يثق في صحته ..
قرر أن يجعل العملية تلقائية عفوية بدون تكلف .. فالله أقرب إلينا من حبل الوريد .. فقط .. نقول يا لله .. نقولها بصدق وبثقة .. وهي تكفي للوصول
لا زال في حال الشوق .. وهذا يعني أنه لا يزال في أول درجة ..
هذه الحالة الجميع يشترك فيها .. الجميع يشتاق ويحب ويأمل ويتمنى .. ولكن قليل منّا من يصل ..
بموقفِ ذلي دونَ عزتكَ العظمى بِمَخفيِّ سِرٍّ لاَ أحِيطُ بِهِ عِلْمَا
بِإطْرَاقِ رَأْسي، باعتِرَافي بِذِلّتي بمدِّ يدي، استمطرُ الجودَ والرُّحمى
بأسْمَائِكَ الحسنى التي بَعْضُ وصْفِهَا لعزتها يستغرقُ النثرَ والنظما
بعهدٍ قديمٍ من" ألستُ بربكم" ؟ بِمَنْ كَانَ مَكْنوناً فَعُرِّف بالأَسْمَا
أَذِقْنَا شَرَابَ الأنْسِ يَا مَنْ إذَا سَقَى مُحِبّاً شراباً لاَ يُضَامُ وَلاَ يَظْمَا
أخذ يترنم بهذه الأبيات أثناء ما كان يهذب عصاه ..
حان موعد صلاة العشاء .. فأذن وصلى .. ولكنها صلاة مختلفة كليا عما تعود .. بعد صلاة العشاء بقليل .. تغيرت الأوضاع بعض الشيء .. أو ربما تغيرت في إحساسه فقط .. هو قبل ذلك لم يشعر بالخوف ، ربما لقربه من ضوء النهار .. أما بعد صلاة العشاء فالظلام أمسى حالكا جدا ..
تذكر بعده عن الحياة .. أقصد البشرية .. هنا حياة وأحياء لا شك في ذلك ولكنهم مختلفون ..
أصبحت الأصوات المختلطة تتزايد .. ميز بعضها والبعض الآخر لم يميزه .. مخاوفه تأتي من ثلاثة مصادر ..
أوّلها : السباع .. في هذا الوادي الموحش .. لا شك في وجودها، سمع قصصاً كثيرةً عن النمر العربي .. والضبع .. والوشق .. والذئب .. يستحيل أن تخلو هذه الشعاب منها .
ثانيها : الحشرات والعقارب والثعابين .. وأيضا لا شك في وجودها ،
أما ثالث مصدر للخوف .. فهي الأرواح .. أقصد الجن على وجه التحديد وهم أيضا لا شك في وجودهم .. وهذه الأخيرة أقصد الجن قد كان فيما مضى يتمنى مقابلة أحدهم بل إنه عندما عزم على القيام بهذه الرحلة كان يتوقع مقابلة أحدهم .. ولكنه الآن غير رأيه ..
الآن .. لا يتمنى ذلك .. بمجرد أن خطرت بباله هذه الفكرة .. فكرة ظهور أحدهم فجأة .. اقشعر بدنه ..
استعاذ بالله من الشيطان الرجيم .. ثم قام .. وأخذ عصاه وخط دائرة كبيرة حول المكان الذي سيبيت فيه .. وفي أثناء ما كان يخط كان يقرأ الفاتحة وآية الكرسي .. والمعوذات .. وآخر سورة البقرة .. وأسماء الله الحسنى
أكمل الدائرة واستمر في القراءة ثلاث مرات لكل ما يحفظ من آيات وأذكار التحصين . كان يقرأها وهو متعلق بالله وكل كلمة كانت تخرج من قلبه .. في اعتقاده إن هذه الدائرة ستحميه من كل شيء من السباع والحشرات والأرواح وحتى من نفسه ..
من أين اتى بهذا الطريق .. لا يعلم .. ليس فيها أثر .. ولا حديث .. ولم يقرأها من قبل في كتاب .. وربما تكون بدعة .. ولكنها خطرت على باله .. فأعجبته فنفذها ..
أحس بأثرها الإيجابي .. فهدأ قليلا .. ربما نفسيا فقط ..
الخوف ظاهرة طبيعية .. كلنا نخاف .. ولكن يجب أن يكون الخوف في معدله الطبيعي .. لأنه إذا زاد ربما يؤثر على الجسم كاملا ويشل حركته
سبق وأشرنا إلى أن الشجاعة والإقدام ما هي إلا القدرة على إخفاء الخوف والتغلب عليه .. وأغلب الصفات الإنسانية والمعاني العظيمة ما هي إلا إخفاء عكسها ويأتي ذلك بالتدرب والمران .. فالخوف من الغرائز ، وجميعنا نشترك في الشعور به ..
ومثله أيضا .. الكرم والجود .. ما هو إلا القدرة على إخفاء الحرص وحب المال والتغلب على حبه والتعلق به ، بفعل ما هو ضده وهو الإنفاق .. فحب المال غريزة ..
لو لا المشقة ساد الناس كلهم ..... الجود يفقر والإقدام قتال
ولذلك كل خصال البر والخير تأتي بالتدرب والمران .. وعندما نقول كلها نعني كلها بدون استثناء .. الله خلق الإنسان ووهبه قدرة عجيبة على التطور والتعلم والتكيف .. ولذلك يعجب من أولئك الذين عطلوا هذه القدرات واستمروا في ضعفهم وعجزهم لسنوات ..
وأيضا كل خصال الشر .. تأتي من الجهل ومن الإهمال والتجاهل والاستمرار ..
ما دخلت الآفة على العباد إلا من ثلاث : الطبيعة وهي الغرائز .. والضعف أمام العادات السلبية ... وفساد الصحبة ..
وحتى يصل الإنسان لا بد له من اجتياز هذه الآفات الثلاث ..
بعد قليل من التأمل والتفكر والتدبر .. هدأت نفس صاحبنا كثيرا .. وتلاشى الخوف تماما .. واستعاد ثقته بنفسه ..
الآن لا مانع لديه حتى ولو حضر أحدهم ؟؟ ..
أسند ظهره إلى صخرة كبيرة مرتفعة جعلها خلفه وهذه من الاستراتيجيات التي يجب تطبيقها في مثل هذه الأحوال أن تختار مكاناً يحمي ظهرك .. وأن تضيّق المداخل .. ليكون التركيز على الجهة الأمامية فقط ..
خطرت بباله فكرة مجنونة جدا .. ومخيفة في نفس الوقت .
أيكون .. ميتاً الآن .. ووجوده هنا .. ما هو إلا حالة عرضية مؤقتة في انتظار الحساب .. ارتعدت فرائصه بقوة لهذه الخاطرة .. يا لطيف الطف .. سترك .. يارب .. اللهم سلّم .. سلّم .. والذنوب والمعاصي .. ماذا يصنع بها .. كان يأمل في التوبة وعمل الصالحات .. أيكون القدر فاجأه .. لم يتحمل هذه الفكرة فنهض منتفضا كأنه يطردها ...ويختبر نفسه و أنه لا زال على قيد الحياة ..
بحث عن شيء يفعله .. ليتأكد من ذلك .. صلى ركعتين .. نعم الأموات لا يصلون .. تنفس الصعداء .. لا زال في الأمر فسحة ..
أوصل به الحال إلى هذه الدرجة .. أليس هذا جنونا ؟
ولماذا جنون ؟ إنه عين العقل
ألن يأتي يوم ويحدث هذا .. ألن يأتي يوم يكون ميتا فعلا .. ويبعث .. فعلا .. ويكون وحيدا فعلا .. سوف يأتي ذلك فعلا ورب الكعبة ..
عاجلا أو آجلا .. سوف يأتي
الأكثر جنونا أن لا يفكر في الموت وهو آت لا محالة ..
سوف يفيق يوما ما وهو في ظلام حالك في القبر ..
الجنون الحقيقي .. هو في أن يعرف النهاية ولا يخطط لها .. ويغتر بالدنيا .. وينسى مفاجأة الموت ..
رجع إلى الصخرة وأسند ظهره مجددا إليها .. وأخذ يترنم بأبيات منسوبة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله وهي أجمل ما قيل في المناجاة .. إنها تحفة من التحف ..
تبدأ أبياتها بقول: إلهي ، ونحن عندما نقول إلهي فنحن نناجي الله ..
لَكَ الحَمدُ يا ذا الجودِ والمَجدِ وَالعُلا .. تَبارَكتَ تُعطي مَن تَشاءَ وَتَمنَعُ
إِلَهي وَخَلّاقي وَحِرزي وَمَوئِلي ... إِلَيكَ لَدى الإِعسارِ وَاليُسرِ أَفزَعُ
إِلَهي لَئِن جُلتُ وَجَمَّت خَطيئَتي ... فَعَفوُكَ عَن ذَنبي أَجَلُّ وَأَوسَعُ
إِلَهي لَئِن أَعطَيتَ نَفسي سُؤلُها ... فَها أَنا في أَرضِ النَدامَةِ أَرتَعُ
إِلَهي تَرى حالي وَفَقري وَفاقَتي ... وَأَنتَ مُناجاتي الخَفيَّةِ تَسمَعُ
إِلَهي فَلا تَقطَع رَجائي وَلا تُزِغ .. فُؤادي فَلي في سَيبِ جُودِكَ مَطمَعُ
إِلَهي لِئَن خَيَّبتَني أَو طَرَدتَني.. فَمَن ذا الَّذي أَرجو وَمَن لي يَشفَعُ
إِلَهي أَجِرني مِن عَذابِكَ إِنَّني ... أَسيرٌ ذَليلٌ خائِفٌ لَكَ أَخضَعُ
إِلَهي فَآنِسني بِتَلقينِ حُجَّتي.. إِذا كانَ لي في القَبرِ مَثوىً وَمضجَعُ
إِلَهي لَئِن عَذَّبتَني أَلفَ حَجَّةٍ ... فَحَبلُ رَجائي مِنكَ لا يَتَقَطَّعُ
إِلَهي أَذِقني طَعمَ عَفوكَ يَومَ لا ... بَنونٌ وَلا مالٌ هُنالكَ يَنفَعُ
إِلَهي إِذا لَم تَرعَني كُنتُ ضائِعاً ... وَإِن كُنتَ تَرعاني فَلَستُ أَضيعُ
إِلَهي إِذا لَم تَعفُ عَن غَيرِ مُحسِنٍ ... فَمنَ لَمسيءٍ بِالهَوى يَتَمَتَّعُ
إِلَهي لَئِن فَرَّطتُ في طَلبِ التُقى ... فَها أَنا أَثْرَ العَفو أَقفو وَاَتبَعُ
إِلَهي لَئِن أَخطَأتُ جَهلاً فَطالَما ... رَجَوتُكَ حَتّى قيلَ ها هُوَ يَجزَعُ
إِلَهي ذُنوبي جازَت الطَودَ وَاَعتَلَت ... وَصَفحُكَ عَن ذَنبي أَجَلُّ وَأَرفَعُ
إِلَهي يُنجِّي ذِكرُ طَوْلِكَ لَوعَتي ... وَذِكرُ الخَطايا العَينُ مِنّيَ تَدمَعُ
إِلَهي أَنِلني مِنكَ روحاً وَرَحمَةً ... فَلَستُ سِوى أَبوابِ فَضلِكَ أَقرَعُ
إِلَهي لِئَن أَقصَيتَني أَو طَرَدتَني ... فما حِيلَتي يا رَبُّ أَم كَيفَ أَصنَعُ
إِلَهي حَليفُ الحُبِّ بِاللَيلِ ساهِرٌ ... يُنادي وَيَدعو وَالمغَفَّلُ يَهجَعُ
إلهي وهذا الخلق ما بين نائم ومنتبه في ليله يتضرع
إلهي وهذا الخلق ما بين نائم ومنتبه في ليله يتضرع
وُكُلَهُمُ يَرجو نَوالَكَ راجياً ... لِرَحمَتِكَ العُظمى وَفي الخُلدِ يَطمَعُ
إِلَهي يُمنّيني رَجائي سَلامَةً ... وَقُبحُ خَطيئاتي عَليَّ يَشنعُ
إِلَهي فَإِن تَعفو فَعَفوُكَ مُنقِذي ... وَإِلا فَبالذَنبِ المُدَمِّرِ أُصرَعُ
إِلَهي فَاِنشُرني عَلى دينِ أَحمَدٍ ... تَقيّاً نَقيّاً قانِتاً لَكَ أَخشَعُ
وَلا تَحرِمَنّي يا إِلَهي وَسَيِّدي ... شَفاعَتَهُ الكُبرى فَذاكَ المُشفَّعُ
وَصَلِّ عَلَيهِ ما دَعاكَ مُوَحِّدٌ ... وَناجاكَ أَخيارٌ بَبابِكَ رُكَّعُ .
كان مرهقا جدا .. فهو طوال اليوم تقريبا يمشي ..لكنه .. لا يريد أم ينام الآن فالليل لا زال في بدايته .. أسند ظهره إلى الصخرة .. يغفو .. ثم يصحو ، وما بين الغفوة والصحوة .. هبت نسمة هواء قوية بعض الشيء فأطفأت الشمعات التي كانت مضاءة .. ظلام حالك .. لا يرى أطراف أصابعه ..
لا بأس .. القمر لن يتأخر .. هكذا حدث نفسه .. ( الكشاف ) في جيبه ولكنه لم يرد أن يستخدمه .. قال لنفسه : لا بأس أن أبقى في هذا الجو قليلا حتى يظهر القمر .. واستمر في تأملاته .. وتراتيله .. يغفو تارة ويصحو تارة .. وفي هذا الجو .. إذا به يسمع من يناديه .. باسمه الصريح ..
قام فزعا لا يرى شيئاً ..
أخرج الكشاف .. أضاءه .. هنا وهناك وحركه يمينا ويسارا .. لم يرَ شيئا .. يبدوا أنه كان يحلم ..
الصوت كان مألوفا لديه .. كأنه يعرف صاحبه.. ولذلك .. غلب على ظنه أنه كان مجرد حلم .. نظر إلى الوقت في الساعة .. لم يمضِ سوى القليل من الوقت ، لا شك أن سنة من النوم أخذته ..
استند مرة أخرى ولكن هذه المرة بشكل مريح أكثر ..
وشعر بسعادة غامرة .. لم يشعر بها من قبل ..
استشعار السعادة فن وقليل من يجيده .. وعندما قال ذلك .. قال اسمح لي أن اسهب هنا قليلا .. استشعار السعادة فن وقليل من يجيده إنه شعور .. وإحساس .. فمثلا .. فرحة الغني عندما يحقق نجاحاته ويصل إلى قمة السعاة هي نفسها فرحة الفقير عندما يحقق نجاحاته البسيطة ويصل إلى قمة السعادة أيضا .. لا فرق .. الجميع وصل إلى القمة ..
إذاً .. أنت يا من تملك كل شيء لست متميزا بشيء .. أليس الهدف السعادة والفرح وهي عنده كما هي عندك ..
أيضا .. هناك من يستشعر السعادة في سماع أغنية .. أو مقطع أو فليم أو رواية .. وهناك من يستشعر .. أضعافها في .. قراءة آية أو تسبيح أو ذكر .. هنا سعادة وهناك سعادة .. مع الفارق الكبير في التبعات والنتائج
كل مصادر القوة يمكن أن تأتي بالسعادة ولكن مع الفارق طبعا .. المال قوة .. والجاه قوة .. والمنصب قوة .. ولكنها لا تعادل قوة الله رب العالمين .. ولذلك .. السعادة بدون الله ما هي إلا وقتية وهمية ..
لم يدري .. من أين أتاه هذا الشعور بالسعادة وهذا الفيض وهذا التجلي لا شك أنها منحة ربانية ..
خاف أن يأتيه الصوت مرة أخرى فيفزعه .. فقرر أن يعيش الدور .. وأن يبادر هو بنفسه ..
( وهكذا الأمور التي تخافها .. بادر إليها .. لا تنتظر .. ولا تؤجل .. )
مما ينسب إلى الإمام علي قوله .. (( إذا هبت أمر فقع فيه ، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه ))
فبادر مخاطبا .. من تخيله .. وبصوت مرتفع .. قائلا ألا ينبغي أن تسلم أولا .. وتعرف بنفسك ..
فلم يسمع أي رد .. فتخيل من يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
فرد السلام .. وبصوت مرتفع أيضا .. وانتظر ما بعده من الكلام .. ولكنه أيضا لم يسمع أي كلام ..
فقرر أن يتوقف عن هذا الجنون .. ( أن تكلم نفسك وبصوت مرتفع فهذا جنون ) ولذلك قرر التوقف ومحاولة النوم .. حتى يستطيع أن يستيقظ أخر الليل ..
أضاف بعض الحطب إلى النار .. حتى تبقى مشتعلة ..
تجهز للنوم .. وترك رأسه مكشوفا .. حتى لا يتفاجأ بأحد السباع تقضم من جسده .. كان مرهقا .. فنام مباشرة .. نوما متقطعا ولكنه عادي .. لم يتوقع أن ينام بهذه السهولة وكل هذا الوقت ..
لم يصحُ إلا قبيل الفجر بقليل .. القمر يضيء المكان .. هدوء جميل
جدد وضوءه .. رفع صوته بالأذان .. كان يسمع صدى صوته يتردد .. مشاعر .. لا توصف أحس أنه يحلق في الفضاء .. يطير ويرتفع بعيدا ..
وكأنه ينظر إلى الخلائق ..
رأى عشرات البائسين يبكون .. وعشرات المرضى يتأوهون .. وعشرات المحرومين ينتظرون .. وعشرات المخدوعين .. وعشرات التائهين .. وعشرات النائمين .. وعشرات الغافلين ..
سبحان من أحصاهم وعدهم عدا .. سبحان من يكون اللحظة نفسها مع الجميع .. لا تشغله .. مسألة عن مسألة .. ولا يعجزه شيء ..
استشعر فضل الله عليه .. ورحمته به .. ونعمه التي لا تعد ولا تحصى ..
رفع صوته بسبحان الله عندما تذكر قارورة الماء التي سقطت منه أثناء نزوله .. وكُسرت .. وانزلقت بين الصخور .. وكيف أن الماء انسكب منها مثل الصنبور.. كأنه يسقي شيئا ماء في الأسفل .. لم يكن ذلك عشوائيا ولم تكن صدفة كان ذلك محسوبا .. زمانا .. ومكانا .. لقد ساقه الله ليسقي أحد الكائنات هنا في هذا المكان المقفر .. وربما سخّره الله للقيام بهذه الرحلة خصيصا لتحقيق ذلك .. فسبحان الله العظيم ..
صلى الفجر ..
عندما تكون مع القوي .. تشعر بالقوة .. وتغشاك السكينة والاطمئنان ..
عندما تكون مع القوي .. لا تشعر بالخوف.. وتتحدى الدنيا بأسرها ..
عندما يكون القوي معك .. يا له .. من شعور .. لا يوصف ..
اشعل النار مجددا وضع إبريق الشاهي عليها .. أخرج حبات التمر وأكياس الميرة ..
اختفى الظلام تدريجيا .. بدأت الشمس بالشروق ..
حدث ما غير كل حساباته .. وجعله يجمع اغراضه بسرعة .. ويبحث عن طريق العقبة .. قاصدا الرجوع ..
هبت الريح وغيّم الجو .. ماذا لو أمطرت ..
هذا ما لم يحسب حسابه .. حسب حساب كل شيء إلا المطر ..
لا يوجد مكان يستكن فيه عن المطر .. البيوت متهدمة وما بقي آيل للسقوط وهو أخطر ...
هل انتهت الرحلة هنا ؟ .. وهل يكتفي بما حقق من انتصارات ؟
يبدو ذلك ؟ لا خيار آخر .. أكرمه الله بتأخير المطر .. لو نزل المطر ليلة أمس لكانت معاناة حقيقية ..
أيضا لو بقي لن يكون هناك جديد ..
كانت رحلة ممتعة وتجربة ثرية .. مهما حاول وصفها .. لا يكمن أن ينقل كل تفاصيلها .. بل إن الوصف أحيانا يظلمها ويهضمها حقها ..
واكتشف أنه ..
ليس هناك سباع أو على الأقل لم يشاهدها ( كانت مجرد أصوات بعيدة ) .. لم تضره العقارب والثعابين ولم يشاهدها أيضا .. لم يكن هناك جن ولا أرواح ..
كانت مخاوفاً فقط .. وأغلب المخاوف .. في داخلنا فقط ، ليس لها أي وجود على أرض الواقع ..
لا يستطيع السير .. إلا خطوات يسيرة .. تهتز بعدها رجلاه من الشد العضلي والارهاق .. فيضطر أن يجلس .. معاناة كبيرة .. حتى عاد إلى بيته ..
كتبها / حامد علي عبد الرحمن
التعليقات