الخطيئة وفلسفة والعقاب / حامد علي عبد الرحمن للمزيد عن الكاتب أنقر فوق الأسم
هذا الكون أيها الأحبة وهذا الخلق وهذا الوجود .. ليس عبثا ، إنه محكم بقوانين وسنن وضعها الله تعالى .. تحفظه وتسيره .. قانون عظيم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ... قال تعالى : لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا .... منتهى العدالة والحكمة والرحمة ..
وهذا الإنسان الذي خصه الله بالحرية وأعطاه القدرة على الاختيار .. لم يخلقه عبثا أيضا .. حاشا وكلا .. ولم يتركه هملا .. أعطاه صلاحيات واسعة وقدرات هائلة ... وفضله على كثيرا ممن خلق تفضيلا ... ولكنه في الوقت نفسه .. أحصى عليه سكاناته وحركاته .. إن خيرا فخير .. وإن شرا فشر .. قال تعالى : فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ .. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ هذه الآية هي محور حديثنا ولذلك لنا عودة إليها إن شاء الله .
كل إنسان منا له قصة وحكاية ورواية .. وسوف أستطرد قليلا هنا قبل أن أرجع لموضوعنا .. كل إنسان منا له قصة وحكاية ورواية.. وخط سير مستقل تماما .. لا يتشابه مع أحد أبدا ولا حتى أقرب المقربين له .. كل واحد منا له قصة محسوبة بدقة متناهية ... محسوبة بكل تفاصيلها .. محسوبة بمواقفها وبتقاطعها مع حياة الأخرين ... محسوب كل شيء فيها ..
لو أردنا أن نكتب قصة حياة إنسان مثلا .. إنسانا واحد فقط .. ونعمل له خطة سير أو قصة مكونة من سيناريو وأحداث من أول لحظات تكوينه إلى مماته ... دخوله خروجه سكناته حركاته .. كم نحتاج من أقلام .. كم نحتاج من أوراق .. هذا شخص واحد .. ولكم أن تتفكروا ... في المليارات والمليارات من البشر .. منذ خلق الله آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .. ولكم أن تتخيلوا أيضا بقية المخلوقات .. حشرات .. حيوانات طيور .. أسماك .. أشجار .. كل كائن حي أو غير حي له قصة واحداث .. مكتوبة بدقة متناهية .. من قدر ذلك ومن دبره ومن يعلمه .. ومن يستطيعه .. لا أحد .. إلا الله جل جلاله.. وكم يحتاج ذلك إلى اقلام واوراق لو أردنا أن نكتبه .. حياة حشرة واحدة تحتاج إلى مجلدات .. فكيف بهذا الكم الهائل من المخلوقات .. هنا يتضح جليا معنى قوله تعالى .. وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
الله معك هنا .. وايضا وفي نفس اللحظة مع ذلك الإنسان في أمريكا أو أوربا أو أسيا .. بل مع كل الكائنات .. في نفس اللحظة .. أمر أكبر من أن تتصوره العقول أو تتخيله الأفهام .. سبحانك يا الله ما اعظمك
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ..
نرجع لموضوع حديثنا بعد أن قررنا و أقررنا بحقيقة حال الإنسان وأنه متابع متابعة دقيقة جدا وأنه لن يترك سدى وأن هناك تسجيل وإحصاء دقيق لجميع سكناته وحركاته .. والأعظم والأخطر والأهم أن هناك محاسبة هناك ميزان دقيق جدا ميزان حساس إلى مستوى الذرة .. قال تعالى ..
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ .. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
أية عظيمة وتحذير وتنبيه غاية في الخطورة .. بل إن المتأمل والمتدبر لترتعد فرائصه من ذلك ويقشعر بدنه .. لا نشعر للأسف بذلك ولا نحس به لأن مشاعرنا تبلدت .. وقست قلوبنا فهي كالحجارة أو أشد قسوة ..
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ .. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .. هذا كلام الله وهذا وعد منه جل وتبارك وتعالى .. من يعمل مثقال ذرة من الشر .. لا بد أن يدفع الثمن .. لا مناص ولا مهرب .. عاجلا أو آجلا .. يعجّل الله له العقوبة في الدنيا ليكفر عنه .. ابتلاءات وأمراض وهموم تمحو سيئاته .. أو يؤخرها له في الأخرة وهناك حساب وعذاب .. وهنا مصيبة وهناك مصيبة أعظم .. وهنا أمران أحلاهما مر .. ولا مناص من أحدهما شاء الإنسان أم أبى ..
من يعمل ذرة من الشرور والآثام .. سيدفع الثمن عاجلا أو أجلاً .. فزد أو انقص .. قلل أو أكثر ، القرار لك .. أنت من سيدفع الثمن لا غيرك .. وأنت من يختار ..
إذا أدركنا ذلك وتأكدنا منه .. وأن هذا وعد من الله ولن يخلف الله وعده .. أليس من الحكمة والعقل .. أن نقلل من الذنوب والخطايا .. حتى نسلم من تكفيرها في الدنيا ومن عذابها في الأخرة ..
ألا يجب علينا أن نأخذ الحيطة والحذر ..لأنه لا محالة سنرى نتيجة ما نفعل .. هذا قول الله تعالى .. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .. وإذا أذنبنا (وذلك لا محالة ) فنحن بشر .. ألا يجب علينا أن نسارع في التكفير .. بالاستغفار والتوبة النصوح ..
إذا لم نفعل ذلك فسيكفرها الله لنا بالابتلاءات والأمراض والهموم والأحزان في الدنيا .. أو بالعذاب في الأخرة .. هذه قاعدة سماوية منتهية .. لا بد أن نحاسب لا بد أن ندفع ثمن أخطائنا .. عاجلا .. أو آجلا ..
تريد أن تتمتع أكثر وتقضي وقت أطول مع الذنوب .. وتريد أن تؤجل التوبة ..
فليكن .. ولك ما تريد .. ولكن استعد لدفع الثمن ... عاجلا وأجلا ..
قال تعالى : وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ
وقال تعالى : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
للذنب أيها الأخوة ثلاث حالات أو ثلاث نتائج لا رابع لها ..
عقوبة في الدنيا .. أو عذاب في الأخرة .. أو مغفرة وعفو وتكفير .. والغفران والتكفير له اسبابه وطرائقه وشروطه .. سنذكرها الآن بالتفصيل:
ولكن قبل ذلك يجب التذكير بأن الأصل عند المؤمنين أن الذنب لا يأتي إلا عرضا بمعنى .. لا يكون هناك تبييت للنية مع سبق الإصرار والتعمد .. وحتى يتضح المعنى نضرب مثلا .. هناك فرق كبير جدا بين تأخير الصلاة نادرا أو عرضا .. وبين من ينام وهو أصلا مبيت النية أنه لن يستيقظ لها .. فرق كبير بين من ينظر إلى الحرام عرضا .. ضعفا أو غيره ، وبين من يبيت النية سلفا في النظر إلى الحرام والبحث عنه والتخطيط له .. وهكذا .. فرق كبير بين من يرتكب الذنب وهو لم يخطط له .. وبين من يخطط وينوي الاستمرار .. ما دمت أنت تحتفظ بأدوات المنكر .. أيا كان .. ما دمت أنت تعيش المنكر وتنوي تكراره فأنت تخالف قاعدة المغفرة الأساسية وشرط التوبة .. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
وهنا كلام مهم جدا في الاستغفار .. هذا لمن أراد أن يفهم معنى الاستغفار الحقيقي .. الكثير منا للأسف يفهم معنى الاستغفار خطأ ولذلك يستمر في اقتراف الذنوب والخطايا بكل بلادة . الاستغفار يعني التوبة .. بمجرد ما تقول استغفر الله .. هذا يعني اعترافك بذنبك ويعني عقد العزم على الاقلاع عنه والتوبة منه .. هذا هو مفهوم الاستغفار الحقيقي بدون ذلك لا معنى له .. لا معنى أن تقول : استغفر الله وأنت مستمر على المعصية وتنوي تكرارها .. من لوازم وشروط قول : استغفر الله التوبة والاقلاع الفوري .. عندما تذنب .. ثم تستغفر الله وأنت تنوي التوبة النصوح لا شك أن الله غفور رحيم مهما كان ذنبك .. أما عندما تستغفر وأنت عازم على التكرار فأنت في الحقيقة لست صادقا ولا مخلصا في توبتك .. بل أنت مستهزئ .
كل المطلوب وكل الشروط حتى تغفر ذنوبك.. الاستغفار .. وعقد النية الصادقة على التوبة والاقلاع الفوري .. انظروا إلى كرم الله ورحمته .. تغفر ذنوبك وتمحى سيئاتك .. أي كرم أكبر من هذا .. وعندما يُغفر ذنبك تضمن أمورا كثيرة جدا .. منها استجابة الدعوة .. ومنها السلامة من العقوبة في الدنيا والأخرة ومنها الحياة الطيبة .. قال تعالى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .. هذا وعد من الله .. والله لا يخلف الميعاد . وعد بالحياة الطيبة وهذا غاية مايتمناه العاقل ..
كلما أذنبت ذنبا تب إلى الله مباشرة واعقد النية الصادقة على عدم العودة .. لا تنو الاستمرار أبدا على المعصية مهما صغرت .. وأن حصل وضعفت وعدت إلى المعصية .. فكرر التوبة والاستغفار .. ونختم بطريقة جميلة وفعالة تساعد في التوبة من المعاصي وتضمن عدم تكرارها .. كلما أذنبت ذنبا .. عاقب نفسك .. وما أجمل أن يكون العقاب فيه قربة إلى لله .. وهذه طريقة سبقنا إليها الأنبياء والرسل .. قال تعالى : على لسان النبي سليمان عليه السلام . فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ .. رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ .. عاقب نفسه فتصدق بكل الخيل التي أشغلته عن الصلاة .. فعندما تخطئ عاقب نفسك بالصيام مثلاً .. عاقب نفسك بإلزامها بختم القرآن أكثر من مرة .. عاقب نفسك بالزيادة في صلاة النوافل .. عاقب نفسك بقيام الليل .. عاقب نفسك بإلزامها بالتواجد في المسجد قبل الأذان عاقب نفسك بالإنفاق والصدقة .. وهكذا لا تجعل المعصية تمر هكذا .. بهذا العقاب إذا صح التعبير ـ رغم أنه ليس عقابا ـ وبهذه الطريقة تضمن أيضا أشيئا كثيرة جدا .. منها تكفير الذنوب .. والزيادة في الحسنات .. ودحر الشيطان .. لأن الشيطان سيخفف من وسوسته لأن المعصية أتت بنتائج عكس ما كان يخطط له
هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد
التعليقات