المحكم والمتشابه في القرآن / حامد علي عبد الرحمن
اللهم علمنا ما ينفعنا .. وانفعنا بما علمتنا .. وزدنا علمنا ينفعنا
أيها الأخوة الكرام :
سنتحدث اليوم عن المحكم والمتشابه في القرآن الكريم .. بشكل مختصر ومجمل لأن هذا الموضوع طالما أشكل على البعض من الناس قال تعالى :
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ .
ماذا تعني كلمة المتشابهات .. حتى لا تذهب الأفكار بعيدا .. المتشابهات لا تعني بحال من الأحوال أن هناك آيات أقل أو أضعف . حاشا لله فالقرآن كلام الله وكله محكم .. قال تعالى : كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
وقال تعالى : ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
(المحكم) و(المتشابه) لفظان متقابلان، إذا ذُكِرَ أحدهما استدعى الآخر بالضرورة. وهما بحثان رئيسان من أبحاث علوم القرآن، أفاض العلماء القول فيهما .
و(المحكم) من حيث اللغة : يعني الاتقان وفي الاصطلاح : يعني البيان والوضوح بحيث لا يحتمل أكثر من معنى وعرَّفه قوم بأنه: ما استقلَّ بنفسه، ولم يحتاج إلى بيان .. عبارات وألفاظ واضحة .
و(المتشابه) لغة، مأخوذ من الشبه والتشابه، تقول: فلان يشبه فلانًا، أي: يماثله، وله من الصفات ما للآخر. وعلى هذا، فتشابه الكلام تماثله وتناسبه، بحيث يصدِّق بعضه بعضاً أما تعريف (المتشابه) اصطلاحًا، فعرفه بعضهم بأنه: ما استأثر الله بعلمه، وعرفه آخرون بأنه: ما احتمل أكثر من وجه، وقال قوم: ما احتاج إلى بيان، بردِّه إلى غيره
إذا فالمحكم والمتشابه الوارد في القرآن، من جهة اللغة لا تنافي ولا تعارض بينهما فالقرآن كله محكم بمعنى أنه متقن غاية الإتقان، وهو أيضًا متشابه، بمعنى أنه يصدق بعضه بعضًا؛ ونستطيع أن نعرف المحكم بأنه ما عُرف المقصود منه وكان واضحا للجميع ، والمتشابه ما خفي المقصود منه ولا يعرف تأويله وتفسيره إلا الله ثم من فتح الله عليه من الراسخين في العلم. لذلك وصَف الله تعالى الآيات المحكمات: بأنهن أم الكتاب؛ أي أصلُه الذي يعتمد عليه، ويُرَد المتشابه إليه. وأما المتشابه: فهو الذي يحتاج إلى أهلِ العلم لتأويله وردِّه إلى المحكم إن كان ممكنًا، وإلا فأمره موكول إلى الله،
والآية المحكمة آية لا تحتمل إلا معنى واحداً ، آية قطعية الدلالة ، آية لا يستطيع المجتهد أن يعمل فيها ، آية لا يختلف فيها اثنان ، فالأشياء الثابتة في حياة الإنسان ، القيم الثابتة ، الأشياء التي هي سبب سعادته ، والأشياء التي هي سبب هلاكه ، جاء الأمر بها ، والنهي عنها بآيات محكمة ؛ صريحة هي أصول الدين ، عقائد الدين ، الأوامر ، النواهي ، الحلال ، الحرام ، الحق ، الباطل ، الخير ، الشر ، هذه كلها قيم ثابتة ، لذلك : جاء التعبير عنها بآيات محكمة ،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "في الأنعام آياتٌ محكَمات هن أم الكتاب، ثم قرأ: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ تعالوا نركز بعد ذلك في العبارات والاحكام التي وردت بعد ذلك .. في هذه الآية .. أمور واضحة نواهي و وأوامر صريحة .. ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
هذه كلها أوامر ونواهي واضحة .. وفي هذا الآية يتجلى معنى آيات محكمات
أما الأمور التي هي خاضعة للتطور والتبدل ، بحسب الظروف ، والمعطيات ، والبيئات ، والتقدم العلمي ، متشابهة لأنها لا تدرك من أي أحد ولا يعلمها أي أحد وهذه من بلاغة القرآن وإعجازه .. فالقرآن لم ينزل لعصر واحد ولا لقوم مخصصين .. بل نزل للناس كافة ولجميع العصور .. ومثال ذلك قوله تعالى .. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ . يخلق مالا تعلمون .. مفتوحة .. وتعني كل شيء خلقه الله لم يكن موجود وقت نزول الآيات ومن ذلك الوسائل الحديثة السيارات والطائرات والقطارات .
ومعنى متشابهات أيضا أي أن هذه الآيات تحتمل عدة معان ، والله سبحانه وتعالى ، أراد كل المعاني ، رحمة بالعباد ، وتمشياً مع التطور ثم إن المتشابه أنواع، فهناك متشابه من جهة اللفظ، وهناك متشابه من جهة المعنى، وهناك متشابه من جهة اللفظ والمعنى معًا. وتفصيل هذه الأنواع يكون باختصار في الخطبة الثانية إن شاء الله
المتشابه من جهة اللفظ هو الذي أصابه الغموض بسبب اللفظ، وهو نوعان: أحدهما: يرجع إلى الألفاظ المفردة؛ إما لغرابة ذلك اللفظ، كلفظ (ابّا) في قوله تعالى : وفاكهة وأبًّا .. ومثال ذلك يقال في الألفاظ المشتركة مثل (العين) و(القرء) فلفظ (العين) يطلق على العين الباصرة، ويطلق على العين الجارية، ويطلق على الجاسوس؛ وكذلك لفظ (القرء) يطلق على الحيض، ويطلق على الطُّهر، وكل هذه الألفاظ وما شاكلها من المتشابه، الذي لا يُعرف معناها إلا من خلال السياق الذي وردت فيه، أو عن طريق القرائن التي حُفت بها. أو يرده إلى المحكم .
والثاني: يرجع إلى جملة الكلام وتركيبه، من بسط واختصار ونظم؛ وتقديم وتأخير نحو قوله تعالى : وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ .. فإبراهيم مفعول به مقدم وربه فاعل فالله هو الذي ابتلى إبراهيم وقوله تعالى : أم كنتم شهداء إذا حضر يعقوب الموت فكلمة يعقوب مفعول به مقدم والموت فاعل مؤخر وقوله تعالى : إنما الله يخشى الله من عباده العلماء .. أي العلماء هم الذين يخشون الله وقوله سبحانه : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا فالتشابه هنا جاء من جهة الترتيب بين قيماً وما قبله، ومعنى الآية : أنزل على عبده الكتاب قيماً، ولم يجعل له عوجاً. والمتشابه من جهة اللفظ والمعنى معًا على أنواع، لن نقف على تفصيلها هنا، وحسبنا أن نمثل لهذا النوع من المتشابه بقوله تعالى : إنما النسيء زيادة في الكفر .. فإن من لا يعرف عادة العرب في جاهليتهم وما كانوا عليه، فإنه يتعذر عليه تفسير هذه الآية ومعرفة المراد منها . ومن المتشابهِ الذي لا يعلم تأويله إلا االله : الكلمات التي تتحدث عن القيامة والبعث والنشور وعن الظواهر الكونية مثل الطارق والبروج وأيضا العرش والكرسي وأمر الروح والساعة، وكذلك فواتح السور، مثل: الم، المر، حم، طس، طسم، كهيعص... إلخ . وقد جعل الله بعض القرآن محكمًا؛ ليكون أصلاً للرجوع إليه، وجعل بعضه متشابهًا يحتاج إلى الاستنباط وإعمال العقل، ورده إلى المحكم.
فمن رحمة الله بالأمة أن جعل بعض الآيات القرآنية ظنية الدلالة ، كي يجتهد المجتهدون ، فيرى كل مجتهد رأياً من زاوية ، فكل هذه الآراء أرادها الله عز وجل ، وقبل أن نعبده بها ، فلذلك أي عبادة ، أو أي سلوك ، أو أي موقف ، وافق أحد المذاهب الشرعية المعتمدة فهو مقبول . والمحكم هو البيّن الواضح الذي لا لبس فيه ، وهذا هو الغالب في القرآن ، فهو أمّ الكتاب وأصل الكتاب ، وأما المتشابه ، فهو الذي يشتبه أمره على بعض الناس دون بعض ، فيعلمه العلماء ولا يعلمه العامة ، ومنه ما لا يعلمه إلا الله تعالى كما ذكرنا قبل قليل وأهل الحق يردون المتشابه إلى المحكم ، وأما أهل الزيغ فيتبعون المتشابه ويعارضون به المحكم ، ابتغاء الفتنة ، وجريا خلف التحريف والتضليل .قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكّم محكمه على متشابهه فقد اهتدى. ومن عكس ضل وانحرف ولهذا قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب ، لا من حيث المراد كم أشرنا إلى ذلك قبل قليل
فليس بحمد الله بين آيات الكتاب تناقض ولا اضطراب ، ولا ضعف ولا نقص وليس بين السنة والقرآن تعارض ؛ لأن الأمر كله من عند الله ، وقد قال سبحانه وتعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )
التعليقات