وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ / حامد علي عبد الرحمن
اللهم علمنا ما ينفعنا .. وانفعنا بما علمتنا .. وزدنا علمنا ينفعنا .
أيها الأخوة الكرام :
قال الله سبحانه وتعالى : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ تمر هذه الآية الكريمة على الكثير منا مرور الكرام ... دون تدبر ولا تأمل .. ولكن عندما نتأملها يتبادر إلى الذهن السؤال التالي : هل الشكر صعب إلى هذه الدرجة حتى يكون القليل من العباد هم الشكور فقط . وهل نحن من هؤلاء القليل .. وما هي المواصفات المطلوبة في العبد حتى يكون شكورا ... وما هو المقصود بالشكر هنا ..
وحتى نعرف أي نوع من الشكر هو المقصود هنا نرجع للآية نفسها والكلمات التي سبقت هذا الكلمات مباشرة فالقرآن يشرح بعضه بعضا ويفسر بعضه بعضا إنه منظومة إعجازية عجيبة مترابط ومتماسك إلى حد الدهشة قال تعالى :
اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ .
قال جل وتبارك وتعالى اعملوا ... إذن فالشكر عند الله هو في العمل في الفعل الشكر ليس مجرد كلمات تُقال أو أذكار تردد فقط ..
الشكر أيها الأحبة هو فرح القلب بالمنعم أكثر من فرحه بالنعمة .. ولذلك يستحي العبد الشكور أن يقابل تلك النعمة بالكفران والنكران ولأجل ذلك يتعدى الشكر عند العبد الشكور إلى الجوارح فتقبل على الأوامر والتكاليف وتكف وتنتهي عن الزواجر والنواهي فكل من قال ولم يعمل ليس صادقا .. كل من قال ولم يعمل ليس مخلصا .. ينعم الله عليك بالمال .. فتنفقه في الحرام .. مهما شكرت باللسان فأنت كافر بالنعمة ولست من القليل الشكور المذكورين في الآية ..
وإليكم هذا المثال الواضح : ذكر أحد الأخوة إحصائية بسيطة لمتوسط ما يصرفه المدخن في الشهر وخاصة بعد غلاء الدخان .. فكانت تقريبا تتراوح ما بين الخمسمائة والألف ريال شهريا .. هذا المبلغ يكفي لإطعام أسرة فقيرة لمدة شهر كاملا .. أليس هذا كفران للنعمة
هذا مثال واحد فقط .. وهناك عشرات الأمثلة .. منها الاسراف في المناسبات .. ومنها الترف الزائد في الملابس والاجهزة .
أليس هذا كفرا بالنعمة .. اعطاك الله واكرمك ومنع غيرك ليختبرك .. ففشلت في الاختبار لم تقدر نعمته واحسانه إليك .. وكان ردك للجميل ... العصيان ...
كلمة الحمد والشكر لله جميلة ورائعة ومطلوبة .. ولكنها لا تكفي بدون عمل .. وبدون عمل .. لا تعني إلا شيء واحد هو التهاون .. وألا مبالاة .
ينعم الله عليك بالصحة .. فتنام عن صلاة الفجر فأنت كافر بالنعمة مهم شكرت باللسان .. وهكذا ينعم الله عليك بالجوارح والحواس .. فتطلقها في الحرام .. فانت كافر بالنعمة ... مهما شكرت باللسان
اعملوا ال داوود شكر ... قال جل جلاله اعملوا .. لتكونوا من الشاكرين .. فالشكر لا يكون إلا بالعمل ..
يقول ابن القيّم رحمه الله الشّكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبّة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة .
ويقول ابن قدامة- رحمه الله -: « الشّكر يكون بالقلب واللّسان والجوارح. أمّا بالقلب فهو أن يقصد الخير ويضمره للخلق كافة. وأمّا باللّسان: فهو إظهار الشّكر لله بالتّحميد والذكر والتسبيح ، وأمّا الجوارح: فهو استعمال نعم الله في طاعته، والحذر من الاستعانة بها على معصيته .
وليعلم أن أركان الشكر ثلاثة وهي : الاعتراف بالنعمة أولا؛ ثم الثناء على المنعم ثانيا؛ ثم العمل بالجوارح في طاعة الله ثالثا
والاعتراف بالنعمة : يعني أن تقر وتعترف وتوقن وتجزم أن الذي أسداك تلك النعمة هو الله وحده لا شريك له ؛ وما العباد إلا وسيلة فقط للحصول عليها؛ فلا تنسب النعمة إلى أحد أبدا أو إلى جهد أو قوة شخصية ؛ هذا الاعتراف يكون إيمانا ويقينا في القلب واعترافا باللسان ومن الأثار التي وردت في الاعتراف بالنعمة قول نبينا صلى الله عليه وسلم في كل صباح:” اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ.”
أما الثناء على المنعم : وهو الله عز وجل – فيكون بذكره عموما وحمده وتسبيحه وتوحيده سبحانه وتعالى لما أولانا من نعم وأسدا إلينا من معروف؛ ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحي ليله كله في الثناء على الله عز وجل؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ” فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَمَسْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ وَقَدَمَاهُ مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ؛ وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ؛ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.”
أما العمل بالجوارح : فهنا المحك وهنا الاختبار الحقيقي وهذا ما أشرنا إليه في بداية الخطبة وهو الأصل إذا لا ينفع القول بدون عمل قال تعالى اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ .
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام حتى تفطرت قدماه .. قالت عائشة : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا .. أنظروا وتأملوا إلى معيار الشكر عند النبي صلى الله عليه وسلم .
هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم .. والبعض إذا سمع إن فلانا يقوم الليل أو يصوم النهار .. أو راءه يجتهد في تطبق السنة على نفسه أو أهله قال اتعب نفسه .. أو ضيق على نفسه .. أو عقد أهله .. أو الدين يسر ... إلى غير ذلك من الكلمات المثبطة .
أيها الأخوة الكرام :
لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة لا تعد ولا تحد ولا تحصى، قال تعالى في سورة إبراهيم : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وقال سبحانه وتعالى في سورة النحل : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
وإن أعظم النِّعَم بعد الإيمان بالله عز وجل نعمة الأمن، فالأمن ضد الخوف، الأمن طمأنينة القلب وسكينته وراحته وهدوؤه، ..
لقد عد علماء النفس وفي مقدمتهم " ماسلوا " في هرم الاحتياجات الإنسانية .. الأمن في المرتبة الثانية مباشرة بعد المقومات الأساسية للحياة .
وما ذاك إلا لأهميته .. فبدون الأمن لا يمكن أن تشعر بطعم النوم .. أو بلذة الطعام .. ولا حتى براحة العبادة ... فالأمن من مقومات الحياة البشرية، لا تزدهر الحياة ولا تنمو ولا تحلو بغير الأمن. ما قيمة المال إذا فُقِد الأمن؟! ما قيمة الجاه إذا وجد الرعب والخوف والقلق .. كيف يطيب العيش إذا انعدم الأمن؟!
ولذلك امتنّ الله على الخلق بنعمة الأمن، وذكّرهم بهذه المنّة، ليشكروه عليها، وليعبدوه في ظلالها، قال الله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وقال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ .
وعن عبيد الله بن محسن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها ... وهنا قدم الأمن على العافية والقوت .
ولأهمية الأمن وحاجة الإنسان إليه سلبه الله ممن كفر بنعمته فجعل الخوف عقاب للذين لم يشكروا نعمة الله وأي عقاب أشد من الخوف والرعب .. .. قال تعالى :
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ..
أيها الأحبة : لعظم نعمة الأمن وأهميته وخطورته .. أمرالله بطاعة ولي الأمر ونهى وحذر من الخروج عليه .. لأن الأمن والاستقرار لا يكون بغير ذلك .
قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة .. وماذا ذاك إلا لن الأمن لا يستقر إلا بالسمع والطاعة .. ولذلك عُد الخروج على الحاكم المسلم من كبائر الذنوب .
لأن الخروج على الحاكم المسلم يعني الفتنة والحرب .. والحرب يعني .. الخوف والهلع .. يعني هتك الأعراض .. يعني الذل يعني التشتت والضياع وخاصة للأطفال والنساء .. يعني ضياع الوحدة وضعف الأمة .. وهذا يعني ضياع الإسلام .
أمورٌ يضحكُ الجهال مِنــــــــهَا ... ويبْكِي منْ عَواقِبها اللـبِيبُ
فاشكروا الله بطاعة ولي أمركم .. فإنها والله قربة وطاعة لربكم .. واعتبروا بغيركم يا أولي الألباب . وحافظوا على هذه النعم بشكر الله بالقول والعمل .
التعليقات