الماجريات / حامد علي عبد الرحمن
اللهم علمنا ما ينفعنا .. وانفعنا بما علمتنا .. وزدنا علمنا ينفعنا .
أيها الأخوة الكرام : حديثنا اليوم سيكون مختلفا قليلا سيكون عن الماجريات .. عن أثارها وما يترتب عليها وعن خطورة التمادي والتعاطي والاستغراق فيها ..
ماذا نقصد بالماجريات .. أول ما يتبادر إلى الذهن إنها لفظة حديثة والحقيقة أنها ليست كذلك . فهذا المصطلح قديم بعض الشيء تم تحديثه وتنشيط استخدامه. وقد ألف في هذا المصطلح وهذه المسألة العديد من الكتب وكتب فيها العديد من المقالات أشهرها .. كتاب المجاريات .. لإبراهيم السكران ومنه أفدت عند إعداد هذه الخطبة
الْمَاجَرَيَاتُ أيها الأحبة : مصطلح أطلقه بعض العلماء كابن القيّم والسّخاوي وغيرهما على الأحداث والأخبار والوقائع، فهو مركّب من أداة التّعريف ( ال ) واسم الموصول ( ما )، والفعل ( جرى ) ، أي: حدثَ ووقعَ، وجمعه الماجريات .. أي الذي يجري .
ويُطلقُها العلماء قديما وحديثا ... على ظاهرةٍ مرضيّة شاعت وذاعت فلم يسلم منها إلاّ القلّة القليلة ! وهي: اشتغال المرء بالأخبار والأحداث التي لا نفع فيها ولا فائدة .
قال ابن القيم رحمه الله : فَإِنّ بركَة الرّجل تَعْلِيمُه للخير حَيْثُ حلّ، ونصحُه لكلّ من اجْتمع بِهِ، قال الله تعالى إِخْبَارًا عَن المسِيح: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ أَي: معلِّماً للخير، دَاعياً إلى الله، مذكِّراً بِهِ، مرغِّباً فِي طاعتِه، فهذا من بركَة الرّجل، ومن خلا من هذا، فقد خلا من البركة، ... إلى أن قال .. فإنّه يُضيع الوقت في المَاجَرَيَات، وَيفْسُد القلب، وكل آفَة تدخل على العَبْد فسببها ضيَاع الْوَقْت وَفَسَاد الْقلب ... انتهى كلامه رحمه الله
أيها الأحبة : أن الانشغال بالماجريات، سواء كانت اجتماعية أو شبكية أو سياسية، ينبغي أن يُضبط بعدد من الموازين ليكون نافعًا ومنتجًا وذا تأثير. .. لأن انفلات الموازين في هذه المسألة يفضي إلى أحد طرفين، إما الانهماك والإفراط المؤدي إلى ضياع الأوقات وقلة الإنتاج والسلبية والانتقال من موقع المؤثر إلى موقع المتفرج، وإما الانقطاع الكامل المؤدي إلى العزلة السلبية والانتقال من موقع المؤثر أيضًا، لكن إلى موقع الهارب من الواقع.
إن معالجة مسألة الانشغال بالماجريات مسألة غاية في الأهمية ولا سيما في ظل الطفرة الإنفتاحية الهائلة على العالم بأحداثه وأخباره وأفكاره، وفي ظل توفر هذا الكم المتضخم من القنوات الفضائية والأجهزة الذكية، التي لم يسلم من انفلات موازين ضبطها حتى طلبة العلم ومشايخه والدعاة والمصلحون إنها شكوى مريرة باح بها علماء ودعاة ومصلحون، ومن هنا جاءت أهمية الالتفات إلى هذه المسألة والوصول إلى حالة من التوزان .. ما بين الانقطاع المضر الذي يوصل إلى العزلة المجتمعية وما بين التواصل المخل الذي يستغرق الوقت بأجمعه وعلى حساب العلم والعمل ..
أيها الأحبة بعد هذه المقدمة سوف نستعرض أهم ادوات الماجريات الحديثة .. وكيف سرقت منّا الوقت نهائيا ... سوف نركز على الماجريات الشبكية والمواقع الالكترونية والتي من اشهرها .. اليوتوب .. التويتر .. والفيس بوك .. وأخطرها على الإطلاق الواتس أب فهو يعتبر الأكثر شهره .. والأكثر استخدام .. وهو يشكل في الغالب المنفذ والقائد إلى بقية المواقع .
أيها الأخوة الكرام : ينبغي التمييز بين فقه الواقع والغرق في الواقع ، فكثير ممن اقتنع بضرورة فقه الواقع في العلم والإصلاح تحول لا شعوريًّا إلى الغطس في الماجريات والانغماس في دوامة الأحداث والوقائع حتى تجاوز القدر المطلوب وغرق في وحل الواقع .
ينبغي التمييز بين المتابعة المتفرجة والمتابعة المنتجة، حيث يتوهم البعض أنه بملاحقة الماجريات الفكرية والسياسية والاجتماعية قد يصنع شيئًا نافعًا ، أو قد يستفيد لكن الواقع العملي يثبت أنه مجرد متفرج لا غير. أضاع وقته واجهد نفسه والمحصلة صفر ..
ينبغي التمييز بين توظيف الآجهزة الذكية والاستفادة منها وبين الارتهان والاستغراق فيها هناك شريحة واسعة ممن استغلوا فرص النشر الشبكية والفضائية وتحولوا من منتجين إلى مستهلكين تخرطهم المواقع في ماجرياتها ، تحولوا إلى مستهلكين لكل ما تنتجه هذه الآلة من مهاترات فكرية وشائعات اجتماعية وسياسية.
وأخطر ما في هذه الماجريات .. الشائعات .. استقبالها والتأثر بها وترويجها .. سواء بقصد أو بغير قصد ..
وإن أسوأ ما في الماجريات هو تتبع ماجريات الناس وأحوالهم وأخبارهم .. وتتبع هفواتهم والبحث في أحوالهم وتصيد عثراتهم ... ولا يقل عنها سوء نشر الأحاديث الموضوعة والآراء الشاذة .. وهذه ربما تحتاج منا عودة في خطبة مستقلة لأهميتها وخطورتها .. دينيا .. واجتماعيا .
تكمن خطورة الاشتغال بالماجريات في أنها نوع من الإدمان إنها مرض نفسي يسمى اضطراب إدمان الإنترنت ، هذا الاضطراب أعراضه قريبة جدا من أعراض الإدمان على المخدرات والكحول والقمار ! من نتائجه الإخفاق الدراسي، وتدهور الأداء المهني، وأحيانًا الانفصال الأسري، وهناك الكثير من الشواهد على ذلك .
ومن صوره أيضا التصفح القسري حيث يجد الإنسان نفسه مضطرًا إلى التصفح أثناء الأوقات الجادة المخصصة للمهام كحضور درس أو اجتماع ، أو أثناء العمل ولأنه يعتبر ملاذ للهروب النفسي من تعقيدات الواجبات والمهام والمسئوليات العلمية والعملية فإن هناك أعراض انسحابية عند التوقف المفاجئ عن التصفح مثل الانزعاج والغضب والتوتر ، والقلق .. وهذا ينعكس سلبا على الأسرة والمجتمع ومن نتائجه أيضا ما يسمى بالعمى الزمني وهو فقد الإحساس بالزمن، وضياع الوقت . نتيجة تسلسل التصفح أو ما يسمى بالنبأ المتدحرج ومسلسل الخبر والتعليق .. والتعليق على التعليق ، ومقطع يقود إلى مقطع وهكذا نفقد الزمن ويضيع منا الوقت دون الإحساس به .
في الخطبة الثانية إن شاء الله سنذكر أمثله ونماذج .. للتوضيح
يقول الدكتور . محمّد المختار الشّنقيطي ... عندما شكى له أحد الطلاب ضياع وقته مع هذه الوسائل الحديثة ... يقول عن نفسه بعد أن نبه وحذر منها ..
( واللهِ، هذه الوسائل أمرُها عجيب، جلست مرّةً من المرّاتِ على ما يُسمّى بـ" تويتر " - واسمه في النّفس منه شيء -، وفِعلاً جلست بعد صلاة العشاء لأوّل مرّة حتّى فوجِئت بالسّحر ! ذهب عليّ وِردِي من اللّيل، مصيبةٌ عظيمةٌ ! ما تشعر بشيء ! ومن يعرف هذه الأشياء يعرف هذا ... ) انتهى كلامه .
وفي نفس السياق يقول أحد الأشخاص : كان أبني مريضا بمرض خطير ومنوما في المستشفى وكانت أمه منومة معه وبقية أولادي عند عمهم .. كنت وقتها مشتتا ورجعت إلى البيت وكنت عازما على أن انهي بعض الأعمال المتأخرة و أصلي العشاء وأنام مباشرة لعلي أقوم أخر الليل ... أوتر وأصلي وادعوا الله أن يشافي أبني ويحفظه . يقول فتحت الجهاز ... ومن رسالة إلى رسالة ومن خبر إلى خبر ومن رد إلى رد ومن مقطع إلى مقطع ولم أشعر بنفسي إلا بعد منتصف الليل بكثير ... لم أنه أعمالي .. ولم أنم .. ولم أصل .. وضاع وقتي سدى يقول الرجل .. تضايقت من نفسي كثيرا إلى درجة أني حطمت الجهاز تماما . والأمثلة السلبية أكثر من أن تعد ... منها قلة التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة . انشغل الأبن عن أبيه والبنت عن أمها .. والأخ عن أخيه .. في مجلس واحد وكل في واد بعيد عن الأخر ... أيها الأحبة : لا يمكن أن ننتج أو نتميز ونحن مستغرقون في الماجريات إنها عدو الإبداع والتطور .. لا يمكن أن تؤلف كتابا أو تكتب بحثا أو تنتج فكرا ... بل لا يمكن أن تقرأ كتابا مجرد قراءة وأنت مستغرق في الماجريات .. يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري وهو صاحب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية في (8 مجلدات)، التي استغرق العمل عليها قرابة ثلاثين عامًا، يرى أن متابعة الأحداث والماجريات اليومية عبر الإعلام يشل القدرة على الإنتاج ويعطل الإمكانات والمشاريع المعرفية وهو الذي أطلق العبارة الطريفة أنا أفكر، إذن أنا غير موجود . عكس المقولة الشهيرة المنسوبة لديكارت أنا أفكر إذا أنا موجود يقصد المسيري حتى تفكر وتبدع يجب أن لا تكون موجودا في الأحداث يجب أن تتعلم الهرب منها .. والتخلص منها. وبعد أيها الأحبة : بعد هذه الجولات في الماجريات الشبكية والفكرية ستبقى المسألة مسألة توازن ، ويجب أن لا نستسلم لحالة الانجراف في دوامة الماجريات مهما كانت الاغراءات والدوافع ، يجب أن تكون هناك نقطة توقف تُعاد فيها الحسابات بشكل دقيق، فبسبب هذا الغوص في الماجريات اليومية باتت أوقاتنا .. حياتنا ... اهتماماتنا .. فارغة ، باتت الكتب المُشتراة على حالها منذ آمد بعيد ، والإنتاج الإصلاحي قد تجمّد، وآل الأمر إلى "كثرة الكلام وقلة العمل". بل أكثر من ذلك هجرنا القرآن والذكر .
والخلاصة أيها الأحبة ينبغي أن نحذر حتى لا نتجاوز القدر الذي نحتاجه من هذه الماجريات فنغرق غرقا سلبيا يمنعنا من الإنجاز والتقدم. وخلاصة الخلاصة : إن العقلاء خافوا على أنفسهم فتركوا تتبع الماجريات الحلال من أخبار وغيرها حتى يحتاطوا لأنفسهم فكيف يكون الحال مع من أضاع وقته في تتبع الماجريات الحرام من مقاطع وصور وغيرها ... أيها الأحبة أفيقوا قبل أن لا تستطيعوا أن تفيقوا .. فيما ذكرنا كفاية .. لمن فتح الله عليه ولمن ألقى السمع وهو شهيد ..
التعليقات