فلسفة التفكير أو خطورة الفكر / حامد علي عبد الرحمن
اللهم علمنا ما ينفعنا .. وانفعنا بما علمتنا .. وزدنا علمنا ينفعنا .
فلسفة التفكير أو خطورة الفكر .. و رغم أن الموضوع كبير وشائك ويتقاطع مع قضايا كثيرة أخرى إلا أني سوف ابذل جهدي في التقريب والتبسيط والاختصار حتى لا أطيل عليكم .
التفكير أيها الأحبة .. إرادة .. وحضور .. واستقلال .. وشجاعة .. ومسؤولية .. وخيار إيماني .. قال تعالى .. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ .. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .. فالتفكير من أخص خصائص أولي الألباب .
ماذا نقصد بالتفكير ... أو ما هو التفكير .. هو باختصار كبير .. عمليات عقلية أو نشاط عقلي يسعى لحل مشكلة ما أو لتحقيق هدف ما .. فالتفكير عملية طبيعية يقوم بها الإنسان بشكل تلقائي ... ولكن بنسب متفاوتة ومتباينة .. والغالبية العظمى .. تقتصر في تفكيرها .. على ما يخدم غرائزها الفطرية السطحية فقط .. كالتناسل والأكل والشرب والمسكن .. الخ
الناس بطبيعتهم عموما ينفرون من التفكير ومن كل ما يوقظ العقل لديهم من سباته ، لذلك تجدهم يبحثون على الدوام عمن يفكر عنهم بالنيابة .. ومن هنا ظهرت المرجعيات وصناعة الرموز وتضخيمهم والتعلق بهم ومن هنا ظهر التقليد الأعمى والتبعية . يتوارث الناس وخاصة بعض المجتمعات عادات يطبقونها بحذافيرها دون تفكير .. عادات أحيانا تكون مضرة جدا .. وأحيانا تكون مخجلة .. واحيانا تكون ساذجة .. وأحيانا أخرى تكون ظالمة لفئات من المجتمع ومع ذلك يطبقونها بكل اريحية ويستمرون عليها بكل اصرار .. هذا لأنهم عطلوا العقل .. وآثروا التقليد .. فاصبحوا عبيد لأفكار محددة يتوارثونها .. وإذا خرج أحدهم بفكرة جديدة وهذا نادرا ما يحدث .. حاربوه ووقفوا له بالمرصاد ..
أيها الأخوة الكرام عندما نقول التفكير .. يتبادر إلى الذهن مباشرة العقل .. لأن التفكير صفة من صفات العقل .. بل خاصية من خصائصه التي يتفرد بها .. فلا يفكر إلا العاقل .. وعندما نقول العقل يتبادر إلى الذهن مباشرة العلم .. لأن العلم غذاء للعقل ولا يستطع العقل أن يخطو خطوة سليمة بدون العلم ..
لماذا الأفكار خطيرة .. لأنها تتحول إلى مفهوم .. والمفهوم يتحول إلى سلوك .. الأفكار خطيرة لأنها تشكل المعتقد بل هي المعتقد بذاته
كم من اشخاص بل كم من مجتمعات عاشت سنوات طويلة ترضخ تحت سيطرة وتسلط وعبودية الفكر الخاطئ والمفاهيم غير السوية . عبودية الجهل إذا صح التعبير .
سقطت طائرة في إحدى قرى أدغال افريقيا .. وكانت تقودها امرأة .. نجت من السقوط فتجمع عليها سكان القرية واخذوها اسيرة وسجنوها استعدادا لعرضها على كبيرهم في النهار التالي .. وكان مع هذه المرأة قداحة .. ولاعة .. وعندما أظلم عليها الليل استخدمتها لترى ما حولها .. عندما رأى أهالي هذه القرية النار تخرج من هذا الشيء الصغير.. ولأنهم جهلة بدائيون لا يعرفون هذه التقنية انبهروا واندهشوا وسجدوا لها .. وعبدوها .. بل نصبوها ملكة عليهم .. وما ذاك إلا لجهلهم .. لو عرفوا أنها مجرد ألة لتغير الحال كثيرا أقلها ارتاحوا من مشقة الطاعة وذل العبودية ... إنه الفكر أيها الأحبة .. علمهم السطحي أنتج تفكيرهم واستنتاجاتهم وهذا بدوره انتج مفهومهم الذي اعتنقوه وطبقوه .. وهكذا أغلب الناس للأسف حتى وإن لم يشعروا .. يمجدون ويطبلون ويعتنقون مفاهيم وأفكار ساذجة مبنية على علم سطحي .. هؤلاء لا فرق بينهم وبين ذلك البدائي الجاهل . هناك جهل واضح وهنا جهل مقنع أو مغلف . وفي النهاية كله جهل .
اخطر أنماط العبودية هي عبودية العقل .. إنها تفضي إلى عبودية الروح والعواطف والمشاعر والضمير . الجبان عقله مشلول ، لا طاقة لديه للتفكير وذلك أن التفكير شجاعة وأحيانا تكون ضريبته موجعة .
ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله ... وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم
تعطيل التفكير كارثة كبيرة تحل بالمجتمعات والأمم والأفراد .. على جميع الأصعدة بدون استثناء تتضح جليا في النواحي العلمية والصناعية . وهذا ليس موضوعنا .. سنركز هنا على خطورة الفكر والتفكير من النواحي المجتمعية والعقائدية .
أيها الأحبة : أشرنا قبل قليل إلى أن الناس ينفرون من التفكير .. وما ذاك إلا لن التفكير يقود إلى التغيير .. والجميع يخاف من التغيير فالتغيير ليس من السهولة بمكان . لو فكر الكثير من الناس لغيروا الكثير من العادات .
العقل أيها الأحبة : جهاز راق جداً، بل هو أعقد ما في الكون بدون استثناء، بل هو عاجز عن فهم ذاته، فالعقل الذي ينتج التفكير له حالتان إما أن يكون صريحا شفافا واضحا ، وإما يكون تبريرياً ، يسقط العقل حينما يكون تبريرياً، ويصبح أداة رخيصة . أداة مثبطة أداة تجهض محاولات التعلم والتطور والتغيير
فالعقل عندما يكون صريحا واضحا .. يصل إلى الحقيقة وإلى المعرفة .. ويسعى إلى التغير إلى الأفضل . أما عندما يكون تبريرياً يجد للحماقات التي يرتكبها والتقصير الذي يعيشه مبررا .. إنه يحتلق المبررات والاعذار اختلاقا ليبقى على حاله .. التبرير هذا يجعله يعيش نوعا من الرضا الخادع وربما في حالات متقدمة من الانتكاسة الفكرية يشعر المرء بأنه على صواب تماما ولذلك لا يتغير ولا يتقدم . وربما أيضا يهدر طاقته وأمواله في أفعال وسلوكيات خاطئة . هذا كله نتيجة عدم التفكير ..
في الجانب الديني مثلا من أكثر الأمثلة على نفور الناس من التفكير والاعتماد على غيرهم .. ظهور مصطلح .. ضع بينك وبين النار مفتي أو شيخ .. المقصود خذ رأي الشيخ الفلاني أو فتوى الشيخ العلاني .. وإذا كانت خطأ يدخل هو النار وتدخل أنت الجنة .. خذ الرأي الذي يخدم هواك ومصلحتك ورغبتك رغم عدم القناعة أحيانا .. وستكون في مناء عن العقاب لأن الفتوى في ذمة الشيخ . أي فكر أنتج لنا هذه العقليات .
قال تعالى : بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره
أيها الأخوة الكرام :
الآيات التي تتحدث عن العقل، وعن العلم كثيرة جدا ، صعب حصرها في مثل هذا المقام ... مثله قوله تعالى أَفَلَا يَعْقِلُونَ وقوله تعالى أَفَلَا يَنْظُرُونَ وقوله تعالى : لعلهم يتفكرون .
فالتفكير مطلب ديني اجتماعي صحي بل مطلب وقائي أيضا . وقائي من الزيغ والضلال والتبعية . أيها الأحبة : وضع الرموز أيا كانت ... دينية .. اجتماعية .. أدبية .. فنية .. فوق مستوى النقد أنتج لنا عقليات معطلة وتبعية عمياء مخجلة . وهذا هو السبب الرئيس لظهور الملل والنحل والمذاهب الزائغة والمنحرفة والضالة
للأسف اصبحت تُرتكب المخالفات باسم الدين .. والدين منها براء .... ترتكب المخالفات وتترك الأركان والواجبات لقول قاله أحد المجتهدين قاله خطأ ترتكب المخالفات وتترك الأركان والواجبات بحجة أن اختلاف العلماء رحمة .. ترتكب المخالفات وتترك الأركان والواجبات بحجة أن الدين يسر ..
أيها الأحبة تتبع الرخص دون التثبت زندقة .. يقول أحد السلف لو أخذت برخصة كل عالم لاجتمع فيك الشر كله ... ما كان من المسلمات التي لا خلاف فيها .. أصبح الآن فيه نظر .. وجدوا مبرر لكل شيء .. ابتداء بكشف وجه المرأة ووصولا إلى صلاة الجماعة .
إن الإشكال أيها الأخوة الكرام : جاء من حالتين وكلاهما نتج عن تعطيل التفكير أو عن البطالة الفكرية إذا صح التعبير ..
الحالة الأولى : الانغلاق والانعزال .. فالذي لا يخالط الناس ولا يفارق البيئة التي نشأ فيها ولا يقرأ ولا يطّلع إلا على الكتب التي تدعم أفكاره ومعتقداته .. لا يمكن أن يفكر جيدا .. إن الإنسان كلما ازداد اطلاعا على مختلف الآراء والمذاهب والثقافات استطاع أن يحرر تفكيره من القيود .. وكلما كان الإنسان أكثر انعزالا وانغلاقا كان أكثر تعصبا وأضيق ذهنا .. ويظهر ذلك جليا في أفكار وسلوكيات من تنطبق عليه هذه الحالة ليست الأفكار الدينية فحسب بل الاجتماعية والنفسية . تجد الواحد منهم كالصخرة الصماء لا يتزحزح عن فكره حتى ولو كان خاطئ .
الحالة الثانية : على النقيض تماما انفتاح أكثر من ما ينبغي وخاصة بعد فترة انغلاق شديدة كردة فعل .. وليس الإشكال في الانفتاح الإشكال في التأثر والتقليد الأعمى .. هذه الحالة افرزت لنا أنصاف المثقفين وارباعهم .. بل اعشارهم الذين انبهروا جدا بالحضارة الغربية وتلقفوا كل تلفظه ... انبهروا ببعض الأفكار الشاذة المتمردة الرخيصة .. فتحولوا إلى كائنات مشوهة فكريا .. من ابرز علاماتهم التي تدل عليهم .. تذمرهم من المجتمع تذمرا فوق العادة وتصيدهم لأخطائه ومحاولتهم الدائمة الانتقاص منه أقصد المجتمع المسلم .. ونقد الرموز الدينية بشكل بشع إلى درجة السب والشتم أحيانا .. هؤلاء وباء خطير .. لأنهم يؤثرون في شريحة كبيرة من السذج والجهلة وينقلون إليهم سمومهم الفكرية . اصحاب الفكر المستنير ينتقدون الفكرة لا ينتقدون الأشخاص .. وهذا هو التحضر والوعي .. إذا رأيت الرجل لا يتورع عن سب الأئمة والإعلام فلا تقم له وزنا وأعلم أنه مصاب بمرض العته الفكري .. فأحذر أن يعديك ...
ونختم بهذه اللفتة .. اعلموا حفظكم الله أن الأفكار عدوى .. والمشاعر عدوى .. فلا تغامروا وتخاطروا بعقولكم .. اختاروا بعناية فائقة من تجالسون ....
التعليقات