جماليات الدين (2) / حامد علي عبد الرحمن
جماليات الدين أو روح الدين أو المعنى الحقيقي للدين .. وهو الأصل وهو ما ينبغي أن نلتفت إليه ونتعلم كيفية الوصول إليه .. إن استشعار جمال العبادة أيا كانت يجعلنا نحبها ونعشقها فنبادر إليها ونستمر عليها . وهنا المتعة والسعادة واللذة التي لا يعرف طريقها الكثير للأسف ..
الإيمان أيها الأحبة .. أو الإسلام أو التدين عموما حالة روحية .. متسامية .. ليست حسية .. ولذلك صعب قياسها .. وصعب الحكم عليها وصعب تقييمها .. الدين والتدين علاقة عميقة جدا مع الخالق جل جلاله .. ليست بالمظاهر .. وليست بالكثرة بقدر ماهي بالإخلاص ....مشاعر واحاسيس فوق مستوى اللغة والتعبير .. مشاعر واحاسيس فوق مستوى فهم البشر أو إدراكهم .. لا يعلمها إلا الله .. ولذلك لا نستغرب كثيرا عندما نسمع بقصة ذلك الرجل الذي قتل وهو في صفوف المجاهدين ومع ذلك دخل النار .. ولا نتفاجأ بقصة الرجل الأخر الذي سقى كلبا فقط فدخل الجنة .. هذا هو ديننا أعمق من الشكل الظاهري بكثير .. وهنا القوة وهنا التميز وهنا الجمال الذي يحتاج إلى تأمل وتفكر .. فديننا الإسلامي جميل بل غاية في الجمال أينما تأملت أو يممت وجهك تجد الجمال .
موضوع اليوم أو جمالية اليوم التي سنتحدث عنها هي السلام .. لا أقصد السلام عموما .. أقصد التحية .. أقصد قول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
هذه الكلمات العظيمة .. هذه الكلمات التي لها مفعول السحر .. تعكس شيئا من جمال الإسلام وروحه .. تعكس إلى أي حد ديننا جميل .. وقبل أن نسهب في الحديث عن معاني الجمال التي في هذه الكلمات . نستعرض ما ورد فيه من نصوص و أدله .
قال تعالى : فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً..
نقف قليلا مع هذه الآية .. قال تعالى .. سلموا على أنفسكم .. للعلماء في تفسير ذلك كلام كثير منه سلموا على انفسكم أي فليسلم بعضكم على بعض .. ومنه .. أنت عندما تسلم على الناس لاشك في أنك سوف تتلقى الرد فأنت بسلامك على الناس تسلم على نفسك أولا .. سواء ردوا أو لم يردوا فإن الرد من عند الله قال تعالى فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً .
استحضروا ذلك عند كل مرة تلقون فيها السلام .. لتجدوا أثرها الطيب المبارك
وقال تعالى : وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً .. وهنا أيضا وقفة .. إلقاء السلام سنة عند جمهور العلماء سنة مؤكدة وأما رد السلام ففرض واجب بالإجماع . ولذلك يأثم من لم يرد السلام .
والسلام تحية الملائكة، قال الله تعالى : وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ .. سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.. وتحية أهل الجنة قال الله تعالى "وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ" ،وقال تعالى : لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا - إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا . وهى تحية المؤمنين يوم يلقون ربهم قال الله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا .. أما في السنة فإن الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم عَدَّ السَّلام على الْمُسلِمِ حَقَّاً من حُقُوقِهِ على أخيه المسلم قالَ رَسُول اللَّهِ : حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ ومنها : إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ،قَالَ: قَال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُون الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ .. وعَنْ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها، قالت : قَالَ : رَسُول اللَّهِ : مَا حَسَدَكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدُوكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ .
ترى لماذا حسدنا اليهود ؟ ... هذا لأن إفشاء السلام يؤلف بين القلوب ويزيد المحبة ويذهب الفرقة ..فيصبح المسلم للمسلم كالجسد الواحد .. بينما هم اقصد اليهود .. تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ أَبْخَلَ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ ، وَالْمَغْبُونُ مَنْ لَمْ يَرُدَّ، وَإِنْ حَالَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَخِيكَ شَجَرَةٌ ، فَاسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْدَأَهُ بِالسَّلَامِ فَافْعَلْ ولَمَّا سُئِل - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ الإسلام خير؟ قال: تُطعِم الطعامَ، وتَقرَأ السَّلام على مَن عرَفتَ ومَن لم تَعرِف؛ متفق عليه
وفي البخاري عن عمَّار - رضي الله عنه - قال: ثلاثةٌ مَن جمعهنَّ فقد استَكمَل الإيمان: الإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الكَبِيرِ، وَالمَارُّ عَلَى القَاعِدِ، وَالقَلِيلُ عَلَى الكَثِير .. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أولى الناس بالله من بدأكم بالسلام .. ركزوا جيدا قال .. أولى الناس بالله .. الذي يبدأ بالسلام .. إنه لشيء عظيم أن تكون أولى من غيرك بالله .. وقد كان صلى الله عليه وسلم لتواضعه ورحمته ورأفته إذا مرّ بالصبيان يسلّم عليهم. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه ، قال أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ .. وهذا فيه إدخال السرور على قلوبهم والتواضع معهم وتأليف قلوبهم .
وعن الأغر .. أغر مزينة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لي بجريب من تمر عند رجل من الأنصار ، فمطلني به ، فكلمت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اغد يا أبا بكر فخذ له تمره . فوعدني أبو بكر المسجد إذا صلينا الصبح ، فوجدته حيث وعدني ، فانطلقنا ، فكلما رأى أبا بكر رجلٌ من بعيد سلم عليه ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أما ترى ما يصيب القوم عليك من الفضل ؟ لا يسبقك إلى السلام أحد . فكنا إذا طلع الرجل من بعيد بادرناه بالسلام قبل أن يسلم علينا . وكان عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه يَغْدُو إِلَى السُّوقِ ، وكان لا يمر عَلَى سقَّاط وَلَا صَاحِبِ بِيعَةٍ وَلَا مِسْكِينٍ وَلَا أَحَدٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ ، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر .. وعن أنس بن مالك قال: "كان النبي إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل الذي ينزع .
والنصوص كثيرة جدا .. لو ذهبنا نتتبعها لطال بنا الكلام .. أما لماذا هذا السلام جميل .. وكيف يكون من جماليات الدين الإسلامي بل من أجمل جماليته .. فذلك حديثنا في الخطبة الثانية ..
نحن نتحدث عن الجمال .. والجمال ضده القبح .. وبالتأكيد نحن لا نتحدث عن الجمال الظاهري .. نحن نتحدث عن جمال أعمق بكثير .. وأيضا القبح لا نقصد به الشكل والمظهر فقط .. بل إن أقبح القبح ما كان .. في المشاعر والأحاسيس والعلاقات .. أقبح منظر يمكن أن تراه .. العلاقات المقطوعة .. أقبح منظر يمكن أن تراه الكره والحقد .. أقبح منظر يمكن أن تره أخ يهجر أخاه أو جار لا يعرف حق جاره . أقبح منظر يمكن أن تراه الطمع والأنانية ، أقبح منظر يمكن أن تراه الكبر والغرور .
ولذلك جاء العلاج الرباني لهذا القبح .. جاء الجمال العظيم الذي ضمن رسول الله صلى الله وكفل لنا أن إذا طبقناه أن يكون سببا في إزالة كل معاني القبح والسواد من القلوب والصدور ..
أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ ..
هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى .. أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ .. لتصلوا إلى الحب .. إن العلاقة بين السلام وبين جمال العلاقات علاقة متينة وقوية بل أزلية لا تنفك .
يكون في نفسك شيء أو في نفسك أخيك المسلم شيء فتتقابلان ... وبمجرد أن تقول السلام عليكم أو يقولها .. يخنس الشيطان ويهرب .. وتتقارب الأنفس وتصفا القلوب ربما ليس من المرة الأولى .. ولكن مرة بعد مرة .. تختفي نهائيا .. وهنا عظمة السلام .. وهنا تتجلى جمالية السلام .. إنه يذهب الكره ويشيع الحب ..
فالله الذي شرع السلام وأمر به .. أعلم بنفوس خلقه .. اعلم بطباعهم .. فجعل السلام علاجا نافع .. ماذا يعني أن تقول السلام عليكم .. يعني المبادرة بإظهار حسن النوايا .. المبادرة بالسلم والأمان .. المبادرة في إنهاء الخلاف .. المبادرة في زيادة المحبة والألفة . والسلام يعني قطع وطمس بواعث الشحناء والكراهية .. والسلام يقضي على معالم الجفاء ويجتث جذور الحقد من الأنفس .
قول السلام عليكم تختلف عن جميع التحيا الأخرى تختلف اختلافا كبير فهي من جوامع الكلم .. ليست تحية فقط .. إنها أعمق من ذلك فقول السلام عليكم يعني تأنيس وتأمين الأخر الذي لا تعرفه أنت تؤكد له أنك مسالم تحمل الأمن والسلام له وهذا يبعث الراحة والسكينة لديه أما إذا سلمت على من تعرف فإنك تؤكد المحبة والمودة وتزيد الألفة والتقارب .. فأنت .. إن سلمت على الصديق اسعدته .. وإن سلمت على الغريب كسبته .. وإن سلمت على العدو قهرته . وهو في كال حالته رضى لله وقربة . أنت عندما تسلم .. يأتيك الرد من الله .. لا من غيره كما جاء في الآية السابق ذكرها .. فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ..
والخلاصة أيها الأحبة : هناك سر عجيب في السلام .. عندما تقول السلام عليكم .. عندما تقولها وتستشعرها وتخلص فيها لله وخاصة مع الخصوم وخاصة مع الأعداء أو مع من تختلف معهم ... يخرج مع هذه الكلمات طاقة قوية جدا .. طاقة طيبة مباركة .. تشعر معها بسعادة عميقة لا يمكن وصفها ..
نكتفي بهذا القدر حتى لا نطيل عليكم .. وفيه كفاية لمن فتح الله عليه .
التعليقات