ثقافة الاختلاف واختلاف الثقافات / حامد علي عبد الرحمن
ثقافة الاختلاف واختلاف الثقافات .. عن هذا سنتحدث اليوم ..
خلقنا الله سبحانه وتعالى مختلفين في أشياء كثيرة، منها الشكل والطباع واللغة والاهتمامات وغيرها الكثير، لا لشيء سوى أن نتعارف ونتشارك في ما بيننا ويعوض كل منا الآخر ما ينقصه قال تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير . ومع كل هذه الاختلافات والفروق والتباينات بين البشر إلا أن هناك معيار واحد فقط للقرب من الله .. هو التقوى .. كما في جاء في الآية السابقة يؤكده قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى . وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ...
أما في ما جاء في الاختلاف وأنه سنة كونية من سنن الله جل وتبارك وتعالى قال تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين .
من هذا المنطلق يجب علينا ترسـيخ فـكرة الاخـتلاف، الاختلاف في الشكل واللون الاختلاف في الأقوال والأفعال . الاختلاف في الميول والأهواء الاختلاف في العادات والتقاليد .. الاختلاف في تقبل الأشياء والحكم عليها .. الاختلاف في الأفكار كل هذه اختلافات ينبغي أن نحترمها وأن نحترم آراء الأخرين وأفكارهم ..
رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب هذه المقولة التي تنسب إلى الإمام الشافعي رضي الله . حكمه ينبغي تطبيقها والأخذ بها وتعليمها لأبنائنا .. فهي تشرح ثقافة الاختلاف
من حقك أن ترى أن رأيك صواب .. ولكن يجب أن تحتمل الخطأ حتى توطن نفسك على التعلم وربما أن ترى رأي الأخرين خطأ ولكن أعط فرصة لاحتمالية أن يكون صوابا ...
لو طبقنا هذه القاعدة ، فلن يثور كل منا من أجل رأيه بل سيـكون مستمعا ومنصتا لآراء الآخرين ، وإذا ناقش ناقش بوعي وتحضر واحترام يبرهن كل منا على صدق كلامه بالأدلة والبراهين بمنتهى الرفق واللين ولا سيما في الأمور الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي، ففيها متسع كبير .. كل إنسان يستطيع أن يأخذ بالرأي الذي يميل إليه قـلبه. دون أن يكون عليه حرج .. هـناك ما يسمى بالقاعدة الذهبية في فقه الاختلاف لدى علماء المسلمين، حيث يقولون: نجتمع في ما اتفقنا فيه ويحترم بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه . وعندما نرى موقف السلف الصالح من الاختلاف ، يتضح لنا كيف يكون أدب الاختلاف
روي أن هارون الرشيد قال للإمام مالك رضي الله عنهما: يا أبا عبدالله، نكتب هذه الكتب ونفرقها في الآفاق لنحمل عليها الأمة . يقصد مؤلفات الإمام مالك
فرد عليه الإمام مالك .. بقوله : يا أمير المؤمنين، إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة، كلٌّ يتبع ما صحّ عنده، وكل على هدى وكل يريد الله . ثم قال إن أصحاب رسول الله اتفقوا في الأصول واختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكُلٌّ مُصيب .
هذا رأيهم فيما يتعلق بأمور الدين فكيف بنا في الاختلاف في آراء حياتية وليست عقـائدية ثابتة .. يجب علينا أن نتعلم ثقافة الحوار والاختلاف، وفكرة الرأي والرأي الآخر، لأن لكل منا عقله وتفكيره، ولا يجوز لأحد منا أن يقلل من شأن الآخرين أو يسفه أراءهم . وهنا وقفة تأصيلية قصيرة قبل أن نكمل . النصوص أيها الأحبة على ضربين .. إما قطعية الدلالة وهذه لا بد من الأخذ بها وتطبيقها .. فالنقاش والحوار يجب أن يتوقف عندها . الحوار إذا تجاوز إلى مثل هذه القضايا الشرعية وبدأ يخرج ويخوض في الثوابت فينبغي التوقف فورا قال تعالى : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ .. الأمر هنا منتهي .. وإما نصوص ظنية الدلالة .. وهذه تعطي فرصة أكبر للتأويل والاجتهاد والتفكر والتأمل ولكن بعلم وفقه والاختلاف فيها أمر طبيعي جدا.
هذا فيما يتعلق بالنصوص والقضايا الشرعية .. أما القضايا الأخرى المجتمعية أو الإنسانية أو المهنية أو الفكرية أو حتى الأدبية والفنية فالفرصة أكبر بكثير .. ولا ينبغي أن نضيق واسعا .. أو نفرض فكرة معينة أو توجه محدد ومهما كانت وجهات النظر مختلفة لا ينبغي أن تؤثر على الود والحب ..
العاقل المتحضر إذا طرح رأيا ولم يلق قبولا من الأخر .. لا يجب عليه أن يتخذه عدوا ولا ينبغي أن يشخصن الموضوع ..
فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية .. كما يقال وهكذا ينبغي .. لا ينبغي أن نكون أوصيا على الأخرين .. حتى الأطفال الصغار ينبغي أن يعطوا مساحة كافية من الحرية للتعبير عن افكراهم ومقتراحاتهم وبمنتهى الصراحة لا ينبغي تبكيتهم أو قمعهم .. بهذا فقط ننتج جيلا ناضجا فكريا قادرا على تحمل المسئولية .
ايها الأخوة الكرام : الاختلاف ظاهرة صحية جدا .. تدل على الحياة والتفاعل تدل على النضج الفكري .. تدل على الاستقلال وعدم التبعية ..
غياب الحوار بين فئات المجتمع المختلفة، يؤدي إلى إحداث نوع من الجفاء ورفض الآخر على أرض الواقع، فالحوار يعني تبادل الآراء و الإنصات إلى الآخر واستيعابه ، احترامك وجهات النظر التي تختلف معك دون التشكك في النوايا أو التخوين أو التأويل أو الإسقاط يدل على إيمانك أولا وعلى تحضرك ووعيك ثانيا
جميل أن نتحاور دون إقصاء أو تهميش، والأجمل أن نتبادل المعرفة والثقافة ولن يكون ذلك إلا إذا اعطينا الأخر فرصة ليعبر ويقول رأيه ، ولن نصل إلى مجتمع متحضر متقدم ، إلا من خلال إيجاد أرضية للتعددية والتعايش، ديننا عظيم يحتوي على مجموعة متناسقة من القيم الروحية والأخلاقية التي تنص على احترام الأخر وتقديره.. النبي صلى الله عليه وسلم كان جارة يهوديا .. كان يزوره ويحفظ له حقوقه كاملة .. ويعامله بمنتهى النبل والكرم
قال جل وتبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
أية عظيمة جدا جدا في ثقافة التعايش بل إنها أساس في التعامل مع الأخر : مهما كان كرهك للشخص لا تدخل الأمور الشخصية في الحكم عليه .. مهما كان عدم رضاك عنه .. لا تظلمه .. وأعدل .
أيها الأخوة الكرام .. ينبغي أن نفرق بين كلمة الاختلاف والخلاف ..
الاختلاف هو التباين في الرأي والمغايرة في الطرح قال تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ... أما الخلاف فهو مصدر من خالف أي عارض قال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره . فكلمة الاختلاف قد توحي بشيء من التكامل والتناغم كما في قوله تعالى: فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها .. وأما الخلاف فإنه لا يوحي بذلك ثم إن الاختلاف لا يدل على القطيعة بل قد يدل على بداية الحوار فإن ابن مسعود اختلف مع أمير المؤمنين عثمان في مسألة إتمام الصلاة في سفر الحج ولكنه لم يخالف بل أتم معه .
وقد اقر النبي صلى الله عليه وسلم كلاً من المختلفين كما في مسألة أمره عليه الصلاة والسلام بصلاة العصر في بني قريظة فقد صلاها بعضهم بالمدينة ولم يصلها البعض الآخر إلا وقت صلاة العشاء ، ولم يعنف أحداً منهم كما جاء في الصحيحين .
فديننا الحنيف يقبل ثقافة الاختلاف ، ويحث على الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، يحث على المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن، والبعد عن التعسف وتسفيه آراء الآخرين، فرسولنا محمد -عليه الصلاة والسلام- كان يشاور أصحابه ، ويأخذ بآرائهم ومقترحاتهم، وهو الذي يوحى إليه .
فتح أبواب الحوار والاجتهاد الحر الذي لا يتعارض مع ديننا وعقيدتنا ، واستبدال ثقافة الإتباع بثقافة الإبداع ، يجعلنا أمة متحضرة .. مصدر عظيم من مصادر المعرفة الانفتاح على العوالم الأخرى والثقافات الأخرى ذلك يؤدي إلى الإفادة منها وهذا يؤدي بالضرورة إلى الازدهار المعرفي ..
المطلوب تفهم الأخر وعدم رفضه ، وقبوله كما هو وكما يحب أن يعيش وكما يرغب أن يكون ، ما دام في حدود الشرع وفي الأطر القانونية ..
لا يجب ولا ينبغي أن نحاول أن نجعل من الآخرين صورة عنا أو ندمجهم فينا ، أو نفرض عليه توجهاتنا الفكرية ..
كما يجب أن نبتعد عن التمترس وراء آراء ومواقف واجتهادات مسبقة ، وكأنها مقدسات ثابتة غير قابلة لإعادة النظر فيها أو النقاش حولها .
إذا لم يكن هناك حوار بيننا ، فسوف ينطوي كل واحد منا على ذاته وتقع القطيعة بيننا، لأن البديل الوحيد عن الحوار هو القطيعة بلا أدنى شك، التي سوف تؤدي إلى انتشار ثقافة الشك والحذر، التي سوف تقود نتيجة حتمية واحدة، وهي العداء والتصادم . أغلب المشاكل أيها الأحبة إن لم تكن جميعها .. تأتي من سببين رئيسيين مقصود لم يفهم .. أو مفهوم لم يقصد .. نوضح أكثر .. كنت أقصد شيء ولم تفهمني .. عدم الفهم يجعلك تتخبط في التأويل والتفسير والظنون والفهم الخاطئ .. فتفهم شيئا غير المقصود فتكبر القضية وتحصل القطيعة .. كل ذلك ينتهي مع الحوار والمناقشة وإعطاء الأخر فرصة للتوضيح ينتهي بالاستفسار والتأكد من المقصود وإحسان الظن .
رأيي صواب يحتمل الخطأ.. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"..
هذه الجملة تُلخّص محتوى هذه الخطبة التي تؤكّد أننا نحتاج إلى تعلّم ثقافة الاختلاف لا الخلاف ؛ فليس كل ما يُعجبك بالضرورة سيُعجب الآخرين، وليس كل ما تؤمن به من أفكار ومعتقدات بالضرورة يكون له لدى الآخرين نفس الاعتقاد والإيمان أو له نفس الدرجة من التأثير والأهمية ، وليس كل ما تراه صحيحا هو في نظر ورؤية الآخرين كذلك..
خطبة جمعة / جامع قرية خفه .. حامد علي عبد الرحمن
التعليقات