قال اللهُ - تعالى - : و من يتوكل على اللهِ فهو حسبُه ، وقال تعالى : وعلى اللهِ فتوكلوا إن كنتم مؤمنين .
إن مِن سعادةِ العبدِ أن يرزقَه اللهُ - تعالى - حُسنَ التوكُّلِ عليه في أمورِه كلِّها.. فمن توكَّلَ على اللهِ كفاه ومن توكل على الله عز وجل - حقَّ التوكلِ - سكن قلبُه ، واطمأنت نفسُه؛ ولذّ عيشُه ... إنّ بلوغَ هذه المنزلةِ لهو من أعظمِ الأمور ومن أعظم النعم التي يمتن الله بها على من يشاء من عباده .. هذه منزلة لا يبلُغها إلا الصدّيقون وهذه مرتبة عالية لا يبلغها أي أحد .. قال سعيدُ بنُ الجُبير: التوكلُ جماعُ الإيمانِ
فالتوكلُ عبادةٌ قلبيةٌ محضةٌ ، ليست قولاً باللسانِ فقط ، ولا عملاً بالجوارحِ ، ولذلك قال الإمامُ أحمدُ : التوكلُ عملُ القلبِ .. إنها تبدأ من القلب يتبعها نطق باللسان ثم يؤكدها سكون بالجوارح وتسليم ورضى .. إنها مشاعر عميقة يستشعر الإنسان خلالها عظمة الخالق عز وجل واطّلاعه في تلك اللحظة على الحال مع اليقين بهيمنته عز وجل على كل شيء وقدرته على كل شيء . وإنه هو المبدئ المعيد والفعال لما يريد .. ويفوض الأمر إليه مع التسليم والرضا أياً كانت النتائج . وحتى نشعر بذلك لابد للقلبِ أنْ يكون متعلقاً باللهِ - حق التعلُّقِ - ، وأنْ يوقِنَ العبدُ بأن مردَّ الأمورِ إلى اللهِ ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . قال تعالى: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وجاء في الحديث الصحيح عن النبيِّ -صلى اللهُ علي وسلم - قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكلِه لرزقكم كما يرزقُ الطيرَ ، تغدو خِماصاً وتروح بِطاناً .
والصدق في التوكل دليل على حسنِ ظنِّ العبدِ بربِّه ، قال محمدٌ الذهليُّ : سألت الخريبي عن التوكلِ ، فقال: « أرى التوكلَ حُسْنَ الظنِّ باللهِ » ، فعلى قدرِ حسنِ ظنِّ العبدِ بربِّه ورجائهِ له يكون توكلُه عليه ، فحُسنُ الظنِّ بالله يدعو العبدَ إلى التوكلِ عليه .. فمن المعلوم بالضورة إن الإنسان لا يعتمد ولا يتكل إلا على من يحسن الظن به . ثمَّ إن اعتمادَ القلبِ على اللهِ - تعالى - واستنادَه وسكونَه إليه يُذهِبُ عنه ما يكون في القلوبِ من القلق والخوفِ مِن فواتِ الأسبابِ لِعِلمِه أن هذه الأسبابَ بيدِ مُسبِّبِها – سبحانه وتعالى .
أيها الأحبة : خاطب اللهُ سبحانَه وتعالى - في كتابِه - بالتوّكلِ خواصَّ خلقِه وأقربَهم إليه وأكرمَهم عليه ، وشَرَط في إيمانِهم أن يكونوا متوكلين ، وهذا يدلُّ على انتفاءِ كمال الإيمانِ عند انتفاءِ التوكلِ ، فمن لا تَوَكُّلَ له لا إيمانَ له ،قال اللهُ - تعالى - : ((وعلى اللهِ فتوكلوا إن كنتم مؤمنين))؛وقال - تعالى - (وعلى اللهِ فليتوكلِ المؤمنون )) ، وقال - سبحانه - : إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ اللهُ وجِلَت قلوبُهم وإذا تُلِيَت عليهم آياتُه زادتهم إيماناً وعلى ربِّهم يتوكَّلون .
وكما أن الإيمان درجات فإن التوكل أيضا درجات .. كلما زادت الثقة بالله زاد التوكل عليه والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه .
وقد كان في دعاءِ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ما يدلُّ على توكلِه الدائمِ على خالقِه -سبحانه- ؛ فكان من دعائه -صلى اللهُ عليه وسلم - قوله: اللهم لك أسلمتُ ، وبك آمنتُ ، وعليك توكلتُ ، وإليك أنبتُ وبك خاصمتُ
ومن فضائل التوكل وفوائده: أنه يكسبُ العبدَ قوةً وشجاعة لا يحصِّلها بغيره، قال بعض السلف: " من سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكلْ على اللهِ تعالى"، فإن القوة مضمونةٌ للمتوكِّلِ، والكفايةُ وحسن العاقبة .. قال تعالى : الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ .
ومن مزايا التوكلِ وفضلِه : أن المتوكلَ موعودٌ بأجرٍ عظيمٍ وفضلٍ كبيرٍ، بل إنه موعود بدخول الجنة بغير حساب ففي "الصحيحين" في حديثِ السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنَّةَ بغيرِ حسابٍ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيانِ من هُم: هم الذين لا يسْترقُون، ولا يتطيَّرون، ولا يكتوون، وعلى ربِّهم يتوكلون. و لم يكن في التوكل إلا أن أهلَه هم أحبابُ اللهِ لكفاه فضلاً ومنقبةً، قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ..
أيها الأخوة الكرام : إن الاعتماد على الأسباب وحدها والاطمئنان إليها والاتكال عليها نوع من أنواع الشرك مع الله سبحانه في العبادة . واعملوا إنه لا منافاةَ بين التوكلِ الصادقِ وبين الأخذِ بالأسبابِ، فإن مِن تمامِ التوكلِ الأخذَ بالأسبابِ ، ولا يعني التوكلُ أنْ لا يأخذَ العبدُ بالأسبابِ ؛ لأن تركَ الأسبابِ جملةً ممتنعٌ عقلاً وحساً ، وما أخل النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - بشيءٍ من الأسبابِ ؛ فقد لبس درعين يومَ أحدٍ ، واستأجرَ دليلاً يدلّه على طريقِ الهجرةِ ، وكان إذا سافر في حجٍّ أو جهادٍ حَمَلَ الزادَ والمزادَ ، وهكذا فعل أصحابُه -رضي اللهُ عنهم - فالواجب على المؤمنِ الصادقِ أن يتوكلَ على اللهِ تعالى بقلبِه، وعليه مع هذا أن يأخذَ بالأسبابِ التي جعلَها اللهُ تعالى سبيلاً لتحصيلِ الغاياتِ، وطريقاً لكسب المقاصدِ والمبتغياتِ، فاسألوا الله من فضله، وعلِّقوا قلوبَكم به، فإنه لا يأتي بالخيرِ إلا هو، ولا يرفعُ الشرَّ إلا هو.
جاء في الحديث الذي حسنه عدد من العلماء ومنهم الشيخ الألباني أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ناقة له: أ أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال عليه الصلاة والسلام: [ أعقلها وتوكل ].
ولما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقواماً عاكفين في المسجد عالة على الناس ، تركوا العمل والكسب ، علاهم بدرته وطردهم قائلاً : " إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة " ، ولقي مرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ناساً من أهل اليمن ، فقال: من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكلون ، قال : بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل من يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله
للأسف أيها الأحبة إن كثيراً من الناسِ لا يفهمون من معاني التوكُّلِ على اللهِ إلا الشكل سطحي يقتصرون في مفهوم التوكلَ على اللفظ فقط .. لكن واقعهم مخالف تماما .. بعض الناس إذا كانت له حاجة دنيوية أو معاملة أو طلب وظيفة أو غيرها ، تجد أن أول ما يفكر فيه البحث عن الواسطة والتوجه إلى فلان أو علان من الناس ، البعض قد يصاب بالمرض فيعلق قلبه وعقله بالأطباء والأدوية فقط .. ومن الناس كذلك من إذا نزلت بهم المصائب ، وأصابتهم النوائب فزعوا إلى غير مفزع ، وفروا إلى غير مهرب ، طرقوا كل باب ، وسلكوا كل سبيل .. لكنهم غفلوا عن سبيل الله تعالى ، وتناسوا أنه سبحانه إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون ، وأنه سبحانه كاف من يثق به ويتوكل عليه .
لا يمنع أن نأخذ بالأسباب كما ذكرنا .. ولكن قبلها يجب التعلق بالله وحده ودعائه وطلبه والتوسل إليه .. بإلحاح وصبر واستمرار .. صلاة ركعتين قبل الفجر تفعل الأفاعيل وتأتي بالعجب العجاب وتحقق الآمال .. لا تملوا .. حتى ولو استمر الحال لأيام عديدة .. لم يلهم الله الإنسان الدعاء والإلحاح فيه إلا وضمن له الإجابة إذا لم يكن الأمر كذلك لصرف قلبه عن الدعاء ابتداء .. ولكن الدعاء يحتاج إلى التوبة .. يحتاج الاستقامة .. يحتاج إلى المحافظة على الصلوات المكتوبة في وقتها .
أختم بقصة أحد الأصدقاء .. لعلها تنفع الشباب .. يقول تخرجت من الجامعة .. وطرقت كل الأبواب لم اترك بابا إلا وطرقته .. عملت عشرات النسخ من السيرة الذاتية والمؤهلات وتوسطت بكل من أعرف . بحثت في كل مكان دون جدوى ومرت علي السنوات وأنا على حالي لم أجد عملا .. حتى ضاقت علي السبل .. يقول والحديث لا زال لصديقي إلى أن جلست مع أحد الأخوة الأفاضل صدفة في إحدى المناسبات وسألني عن حالي فأخبرته بما اشعر به من هم وضيق .. قال لي وماذا عن الله .. هل طرقت بابه .. قلت نعم .. أنا ادعوا الله دائما .. وكذلك الوالد والوالدة يدعون لي ..
قال لي هل أخذتم بأسباب استجابة الدعاء .. إن كنتم أخذتم بأسباب استجابة الدعاء فانتظر الإجابة .. فإن الله تعالى قال .. ادعوني استجب لكم .. هذا وعد والله لا يخلف الميعاد .. عندها حرت جوابا .. ما هي الأسباب التي يقصد .. فأنا مقصر في الصلاة وعندي من الأخطاء والتجاوزات الكثير .. يقول صاحبي كأنه سكب على رأسي ماء باردا .. جعلني أفيق من سبات عميق .. هل أخذتم بأسباب استجابة الدعاء .. أخذ صدى هذه العبارة يتردد في رأسي .. للأسف لم نأخذ . بعدها مباشرة قررت قرارا غير حياتي .. حافظت على صلاتي في المسجد وتبت إلى الله توبة نصوحا وعلقت أملي بالله وحده تعالى .. أدعوه بعد كل صلاة ..وفي أوقات الاستجابة و خصصت ركعتين في أخر الليل اسأل الله وأدعوه وأناجيه وألح في الدعاء .. وكان من المكاسب السريعة والسريعة جدا أن ارتحت بذلك كثيرا .. اطمأنت نفسي وزال عني القلق والخوف زادت ثقتي في الله .. يقول صاحبي بعدها بفترة وجيزة جدا . ترشحت لوظيفة من الديوان هي أكبر من ما كنت امل واستقرت أموري تزوجت ورزقني الله بالذرية وكل ذلك بفضل الدعاء والتوكل على الله .
والخلاصة أيها الأحبة التوكل شأنه عظيم جدا ينبغي أن نتعلمه ونتقنه به تتحقق المعجزات وتنفرج الكربات .. عند التوكل حق التوكل والأخذ بالأسباب لا يوجد صعب أو مستحل .. هو من خصائص الأولياء وعلامات الأتقياء جعلنا الله منهم
التعليقات