الذكر .. خطبة جمعة .. جامع قرية خفه / حامد علي عبد الرحمن
الحمد لله حمدًا كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، و تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.. اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهمَّ عن آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ ربَّنا - سبحانه وتعالى - خلَقنا لعبادته وتوحيده؛ قال تعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ والعبادة عنوان عريض يدخل تحته كلُّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال؛ الظاهر منها والباطن، والرابح مَن استكثَر من العبادات وتزوَّد من القُربات، واستعدَّ لِما هو آتٍ، فأمامنا جميعًا موت شديد الكُربات، وحشْرٌ ونَشْرٌ، وأهوال وصعوبات؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
عباد الله:
من أنواع العبادة التي ركَّز الإسلام عليها ونبَّه إلى أهميَّتها، عبادة سهلة يسيرة، ليس فيها خسارة مالٍ ، ولا بذل جهد ولا تتطلَّب مخاطرة ولا إقدامًا، ولا تَستلزم فراغًا ، عبادة شأنها عظيم، وأثرها كبير في رفْع الدرجات ومَحو الخطيئات ، عبادة تؤدَّى في كلِّ وقتٍ وفي كل مكان، إنها قد قارَبت في فضْلها فضْلَ الجهاد في سبيل الله، الذي فيه الحرب والضَّرب، عن هذه العبادة يُحدِّثنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين قال لصحابته: ((ألا أُخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مَليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومَن أن تَلقوا عدوَّكم، فتَضربوا أعناقهم، ويَضربوا أعناقكم؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذِكر الله - عزَّ وجلَّ)) وجاء رجلٌ يشكو إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كثرة شرائع الإسلام عليه، ويَطلب منه إرشاده إلى ما يَتمسَّك به؛ ليصلَ به إلى الجنَّة، فبماذا أجابَه الحبيب - صلى الله عليه وسلم؟ عن عبدالله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلِّها؛ فأخبرني بما شِئت أتشبَّث به ولا تُكثر عليّ فأنسى، وفي رواية: إنَّ شرائع الإسلام قد كَثُرت عليَّ، وأنا قد كَبِرت؛ فأخبِرْني بشيء أتشبَّث به، قال: ((لا يزال لسانك رطبًا بذِكر الله تعالى))
وإنَّ المتأمِّل في نصوص الكتاب والسُّنة، لَيرَى عجبًا في بيان أهميَّة الإكثار من ذِكر الله تعالى، ففي الجِهاد في سبيل الله وحال مُلاقاة الأعداء، يأمر الله تعالى بالثبات وبالإكثار من ذِكره؛ قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ... وبعد أداء صلاة الجمعة يوصينا ربُّنا بالذكر ؛ فيقول جل وتبارك وتعالى ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
وفي مناسك الحج يأتي الأمر بذِكر الله في ثنايا أعمال الحجيج؛ يقول تعالى : ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾
وبالجملة: يوصينا ربُّنا - سبحانه - بالإكثار من ذِكره، فيقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ .
الذّاكرون الله تعالى هم السباقون في ميدان السير إلى الله والدار الآخرة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ"، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ".
عباد الله :
لا شك إن ذكر الله عظيم مهما اختلفت العبارات أو تنوعات الكلمات ولكن ورد في بعض الأذكار أحاديث صريحة تدل على فضلها وعظمتها وأجرها الكبير من ذلك: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أحبُّ الكلام إلى الله تعالى أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا يضرُّك بأيِّهنَّ بدَأتَ))؛ رواه مسلم.
وأخرَج الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لأنْ أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبُّ إليّ مما طلَعت عليه الشمس ))
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير في اليوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأتي أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك
ومن ذلك : ما كان يقوله النبي صلى الله عليه في الكرب كان يقول : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ",
ومن ذلك : دعوة ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال صلى الله عليه وسلم ما دعا بها مكروب إلا فرَّج الله كربه".
ومن أجل انواع الذكر الاستغفار عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا.
ومن أجمل الاستنباطات والاستنتاجات في الذكر ما قاله الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه يقول : عجبتُ لأربع كيف يغفلون عن أربع:
عجبتُ لمن ابتُـلى ( بغم ) ، كيف يغفل عن قول : لا إلهَ إلاّ أنتَ سُبحانكَ إني كنتُ من الظالمين والله يقول بعدها ؛ فاستجبنا لهُ ونجيناهُ من الغم وعجبتُ لمن ابتُـلى (بضرّ) ، كيف يغفل عن قول: ربي إني مسّنيَ الضرُ وأنتَ أرحمُ الراحمين والله يقول بعدها ؛ فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر وعجبتُ لمن ابتُـلى ( بخوفٍ ) ، كيف يغفل عن قول : حسبي الله ونعم الوكيل والله يقول بعدها ؛ فانقلبوا بنعمةٍ من اللهِ وفضلٍ لم يمسسهم سوء وعجبتُ لمن ابتُـلى ( بمكرِ الناس ) ، كيف يغفل عن قول : وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ والله يقول بعدها ؛ فوقاهُ اللهُ سيئاتِ ما مكروا .
عبادة الله :
ليس للقلوب المؤمنة قرار ولا طمأنينة ولا هناءة ولا لذة، ولا سعادة إلا بذكر الله تعالى: قال تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
اللهمَّ أعنَّا على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك .
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم .
الحمد لله القائل : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
أما بعد :
قال ابن تيمية رحمه الله : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة وقال بعض العارفين : إنه ليمر بالقلب أوقات ، أقول : إن كان أهل الجنة في مثل هذا ، إنهم لفي عيش طيب .
يقصد بالجنة ذلك الشعورالذي ينسي صاحبه هموم الحياة ومشاقها، ينسيه التعب والنصب والكلل والملل ، ولقد بلغت لذة العبادة وحلاوتها ببعض ذائقيها أن قال من شدة سروره لو يعلم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه ـ يعني من النعيم ـ؛ لجالدونا عليه بالسيوف
إنها الجنة التي من حُرِم من دخولها؛ صار فقيرا ولو امتلك كنوز الدنيا، كما قال أحد العارفين: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، ومعرفته، وذكره .
عباد الله: إن ثمرات الذكر على أهله، وفوائده على أصحابه المحافظين عليه، لا تُعدُّ ولا تُحصى، فقد ذكر ابن قيم رحمه الله أكثر من سبعين فائدة لذكر الله تبارك وتعالى
ومع ما في ذِكر الله تعالى من الأجر العظيم والعاقبة الحميدة، فإن له أيضًا فوائدَ محسوسة، يَلمسها ويشعر بها الذاكرون الله كثيرا والذكرات ، ومن ذلك :
الطمأنينة والهدوء والسكنية .. الا بذكر الله تطمئن القلوب .. وفي هذا علاج لأغلب الأمراض النفسية هذا إن لم يكن علاجا لها كلها . القلق . الاكتئاب التوتر . الخوف والرهاب . الوسواس القهري .. وكفى بذلك نعمة عظيمة وفضل كبير .
وللذكر فائدة عظيمة أيضا في التغلب على التعب والارهاق في الحديث الصحيح عندما طلبت السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما َقَالَ أَلا أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ وَتُسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَتَحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ " صحيح البخاري "
وللذكر فائدة كبيرة جدا في التغلب على الآلام والأمراض فهو يعمل كمسكن ومخدر للألم بالإضافة إلى أنه يعجل من عملية الشفاء برفع مقاومة الجسم للمرض .
وذكر الله تعالى يجلو عن القلوب صدأها فإن القلوب تقسى وتغفل وذكر الله تعالى يلينها ويطهرها . وأهل ذكر الله يأتون يوم القيامة خفافاً قد وضع الذكر عنهم ذنوبهم
أيها الناس : اعلموا أن ما ورد في فضل ذكر الله عز وجل فإنما ذلك في الأذكار المشروعة التي جاء بها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واعلموا أن هناك بدع وخرافات لا تصح فتحروا الثابت والصحيح يرحمكم الله
هذا صلوا وسلموا رعاكم الله على إمام الذاكرين، وقدوة الموحدين؛ محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين ، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين. اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتَّقاك، واتَّبع رضاك يا ربَّ العالمين، اللهم وفق وليَّ أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الناصحة الصالحة، ووفِّق جميع ولاة المسلمين لما تحب وترضى.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكّاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم أصلح ذات بيننا، وألِّف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والزنا والربا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
عباد الله : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . أقم الصلاة
التعليقات