خلقت وحيدا .. خطبة جمعة .. جامع قرية خفه / حامد علي عبد الرحمن
الحمدُ لله نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ ونستهدِيهِ ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فهوَ المهتَدِ، ومنْ يُضْلِلْ فلَنْ تجدَ لهُ وليًا مُرشِدًا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ ، صلّى اللهُ عليهِ وعلى أله وسلم تسليما كثيرا .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
أما بعد :
أيها الناس : خلق الإنسان وحيدا .. ويعيش وحيدا .. ويموت وحيدا .. ويبعث وحيدا عندما نقول خلق .. ويموت ويبعث وحيدا .. لا بأس .. ولكن كيف يعيش وحيدا وهو محاط بالأسرة والمجتمع ..
أيها الأحبة ..الإنسان هذا يحتوي على عالم كبير من العجائب .. والغرائب والأسرار.. نعم يبقى الإنسان وحيدا فريدا .. في فكره .. في مشاعره .. في أحاسيسه .. مهما كان لا يمكن بحال من الأحوال أن يتطابق أثنان في نفس الأفكار حتى ولو كانوا توائم متشابهة .. كل منّا له مشاعره واحساسيه الخاصة .. لا يمكن أن يتشاركها معه غيره . فمثلا قد تجد أثنين يجلسان في نفس المكان ونفس الجو وربما أبن وأبيه .. ومع ذلك كل في فلكه يسبح .. كل في وادي بعيدا جدا عن الآخر من المستحيل أن يتداخلا في الفكر .. أو في المشاعر .. وخذوا هذا المثال الأوضح وهو صورة صادقة بأن الإنسان يعيش وحيدا .. عندما يصاب بمرض .. لن يشعر أحدا بألمه مهما حاولوا الأهل والأقارب مشاركته والتخفيف عنه .. هل يستطيع أحد أن يمرض بدلا عنه ؟ .... ربما يبكون حوله .. ولكنه سيبقى وحيدا في تحمل الألم
كان هذا أيها الأخوة مدخل :
للحديث عن التربية الذاتية : وهو موضوع حديثنا هذا اليوم .. فأول مسؤوليات الإنسان هي مسؤوليته تجاه نفسه، ولذا حري به أن يعتنى بتربيتها وإصلاحها . حري به أن يعتني بروحه لأنه لن ينفعه أحد .
قال تعالى : وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ
وقال تعالى : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ
في نصوص القرآن الكريم أو في نصوص السنة النبوية نجد التأكيد الواضح على أن كل فرد من البشر مسؤول مسؤولية تامة عن نفسه، حتى ذاك الفرد الذي يتعرض إلى الإضلال والغواية من خلال الضغط الذي يُمارس عليه من غيره، سواء أكان ضغطاً نفسياً أم ضغطاً اجتماعيّاً -أيّاً كان مصدر هذا الضغط- لا يعفيه ذلك من المسؤولية، ونقرأ في القرآن الكريم في أكثر من آية نماذج من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين الذين اتَّبَعوا وبين الذين اتُّبِعوا، أو بين الذين استضعفوا والذين استكبروا، فيأتي المستضعفون يطالبون أولئك المستكبرين الذين كانوا سبباً في إضلالهم وغوايتهم أن يتحملوا عنهم جزءاً من العذاب ... ولكن هيهات .. كل مسؤولا عن نفسه .. قال تعالى [وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ (
وقال عز وجل [ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ] وفي آية أخرى يقول عز وجل : * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً , فكل إنسان سيقدم على الله فرداً وحيداً، وسيحاسب محاسبة فردية؛ فلابد أن يتحمل مسؤوليته في تربية نفسه وتزكيتها وقيادتها إلى طريق الخير والاستقامة .
إذا أدركنا ذلك وسلمنا به .. ينبغي أن نعيد حساباتنا ونعيد التفكير في الكثير من أمور حياتنا ..
وهنا أوجه عدة رسائل .. للدنيا والأخرة
الرسالة الأولى : إلى الشباب خاصة .. أقول كل شخص مسئول عن نفسه ولذلك لا بد أن يتحمل المسئولية .. ولذلك .. تعلموا .. اجتهدوا .. كونوا أقويا .. اعمروا الحياة بقوة وبما يرضي الله .. ولن يضيّعكم الله أبدا .. أيها الشباب ابذلوا قصارى جهودكم واعلموا أنه لن ينفعكم أحد غيركم .. كل منكم سيكون وحيدا في معترك الحياة .. ربما يجد الواحد من يعطف عليه .. أو يحن عليه .. أو حتى يتصدق عليه ولكن الحر يابى ذلك اليد العلياء خير من اليد السفلى والمؤمن القوي خيرا وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .
أيها الأحبة لا نزال نسمع الكثير من شكاوي الشباب ، وتبريراتهم .. الكثير من الاسقاطات والتهرب .. شكوى من البيت .. شكوى من المجتمع .. شكوى من المدرسة .. وأنهم هم السبب في الإخفاق والفشل .. كل ذلك حتى وإن كان فيه أحيانا شيء من الحق لن ينفع ولن يفيد .. وأيا كان الأمر هذا أو ذاك، فالشاب يتحمل مسؤولية نفسه، ولو كان جاداً لاعتنى بها منذ البداية، ولتجاوز السلبيات والاحباطات ... أخي الشاب : لا تنتظر من الآخرين أن يحسو بك أكثر من نفسك أنت وصلت إلى مرحلة التعليم الذاتي .. تخلص من العادات السلبية وطور نفسك .. نم قدراتك .. زود خبراتك .. تأكد أنه أنت وأنت فقط من يستطيع التغيير
والرسالة الثانية : إلىّ منيّ أولا وإلى من هم في مثل سني أو قريبا منه ثانيا
أقول : من تريد أن يتحمل عنك المسئولية ..
إذا كنا في الدنيا .. وفي المرض الابن الصالح يجلس يبكي بجانب سرير أبيه لا يستطيع أن يقدم له شيئا ..
فكيف بنا يوم القيام .. هل ستعتمد على أخيك .. أم على أمك أو أبيك .. أم على زوجتك وأبنائك .. قال تعالى : يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ** وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ **وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ** لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
ليس فرارا فحسب بل .. عنده استعداد أن يفتدي نفسه بأي شخص مهما كانت صلة القرابة . قال تعالى :
يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ** وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ** وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد للَّهِ الذي سبحت الكائنات بحمده ، وعنت الوجوه لعظمته ومجده ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى عليه وعلى أله وسلم
أما بعد : أيها الأحبة الأمر جد خطير ..
أن تعيش وحيدا .. وتموت وحيدا .. وتبعث وحيدا .. فهذا غاية في الخطورة
إذا أدركنا ذلك وسلمنا به.. ينبغي أن نستعد ونتجهز ونعد العدة .. كما يفعل المسافر الذي يستعد لسفر طويل .. تجده يهتم بأدق التفاصيل .. حتى لا ينسى شيء
إذا أدركت أنك ستكون وحيدا لا محالة .. ألا يجب أن تعيد حساباتك
تجمع المال وتكنزه لمن ولماذا ؟ .. تصدق أنت على نفسك قبل مماتك وصدقني لن يكون الورثة مهما كانوا صالحين أكثر حرصا منك على نفسك .. إذا طالبت بذلك فأنت تخالف المنطق .. تبخل أنت وتطلب من غيرك الصدقة عنك ..كيف يكون ذلك
تضّيع وقتك .. تلهث هنا وهناك ... لمن ولماذا ؟
ما هو الشيء الذي يستحق أن تخسر أثمن ما لديك من أجله .. وصلت الستين كفى تعلقا وتشبثا بالدنيا .. وصلت السبعين أنزع الغشاوة عن عينيك والتفت إلى نفسك .
أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم بين الستين والسبعين وقليل من يتجاوز ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وصححه الذهبي .
أنفض الغبار عنك .. أطرد الكسل .. شمر عن ساعد الجد .. لا زالت الفرصة سانحة وكبيرة جدا أن تختم بالصالحات أعمالك . فقط أنزع حب الدنيا من قلبك .
أنت وحيد ومسافر لا محالة ..ولذلك يجب أن تهتم بأدق التفاصيل لا تهمل شيئا أبدا هل رددت المظالم .. هل قمت بالواجبات .. هل تبت عن المعاصي والمنكرات .. أنت وحيد ومسافر لا محالة .. هل معك رصيدا من الحسنات .. كم تحفظ من القرآن وكم تقرأ منه في اليوم والليلة .. هل تقوم الليل .. هل ستلحق بالركب .. الذين .. كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ .
أنت مسافر ووحيد فهل سلكت الطريق الذين يبعدك عن الأخطار .. كم تصوم من النوافل .. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا .
اجتهد أكثر لعلك تعوض ما مضى .. أجتهد أكثر لعلك إن شاء الله تكون ممن يقال لهم .. ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ
أو من الذين يقال لهم : سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
تخلص من كل أمر سيبطئ من سيرك تخلص من علائق الدنيا ومسئوليتاها .. حاسب نفسك قبل أن تحاسب .. تخفف من أحمالك ..ينطلق سيرك .. تلحق بالركب .
أيها الأحبة نختم كما بدأنا ..
خلق الإنسان وحيدا .. ويعيش وحيدا .. ويموت وحيدا .. ويبعث وحيدا .. فعلى من يعتمد وماذا ينتظر أفلا يستعد
هذا وصلوا على نبيكم محمد بن عبد الله فقد امركم الله بذلك في كتابه المبين فقال: (ان الله وملائكته يصلون علي النبي يا ايها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلي اله وصحبه وسلم وارض اللهم عن التابعين لهم بإحسان الي يوم الدين , وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا ارحم الراحمين , اللهم امنّا في اوطاننا واصلح ائمتنا وولاة امورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصُر دينكَ وكتابك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين. اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا سميع الدعاء . اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين. اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في كل مكانٍ ، اللهم أنصر جندونا المرابطين على الحدود اللهم اصلح أحوالَهم، اللهم اربط على قلوبهم واهزم عدوك وعدوَّهم. اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بيده إلى البرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه لما فيه صلاحُ العباد والبلاد .
عباد الله : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . أقم الصلاة
التعليقات