العلم .. خطبة جمعة .. جامع قرية خفه / حامد علي عبد الرحمن
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، الحمد لله الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ، والصلاة والسلام على إمام العلم والتقى والسراج المنير خير من علم الأمة، وعمل بما علم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه مصابيح الدجى وأقمار المعارف ونجوم الهدى، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
قال تعالى : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ , وَثَنَّى بِمَلائِكَتِهِ الْمُسَبِّحَةِ بِقُدْسِهِ , وَثَلَّثَ بِأَهْلِ الْعِلْمِ , وَكَفَاهُمْ ذَلِكَ شَرَفَاً وَفْضَلاً وَجَلالَةً وَنُبْلا .
عباد الله : لاشك في أنه لا طريق إلى عبادة الله تعالى على وجه الحق إلا بالعلم ، فهو سلم الوصول إلى الله تعالى ، والطريق الأمثل إلى رضى الله جل وتبارك وتعالى وإلى الجنة ، ولقد رغب الإسلام في طلب العلم وحث عليه ، ووعد على ذلك بعظيم الأجر ، وجزيل الثواب ، قال تعالى : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب " ، وقال تعالى : " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعلمون خبير " وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " ،
والفقيه هو : الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، البصير بأمر دينه ، المداوم على عبادة ربه .وعن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) وماذاك إلا لأن العلم يشمل العلم والعبادة و العبادة بدون علم في خطر عظيم لأنها عرضه للبدع والخرافات .. الجهل يجعل العباد يرتكبون البدعة بقناعة راسخة بأنهم على حق وصواب وأن فعلهم ذلك يقربهم إلى الله .. إن أغلب المذاهب الزائغة ما هي في الأصل إلا عبادة الله على جهل وبدون علم ومن ثم يشتهر المذهب بين العامة والغوغاء ويصبح له اتباعه ومريدوه ولذلك فإن فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد .. لأن الفقيه العالم بأمور دينه يقطع على الشيطان طريق البدع .. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (كل بدعه ضلالة ، وكل ضلالة في النار) رواه مسلم . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) أخرجه مسلم ...
من يعرف ذلك ؟ .. من يعرف يميز البدعة من السنة إلا طالب العلم والعلماء .
أيها المؤمنون : العلم الشرعي هو السبيل الوحيد الموصل إلى معرفة ما فرض الله على عباده ، وما أحل لهم ، وما حرم عليهم ، فإذا حُرم المرء العلم ، ، بقي جاهلاً ، وكان من السهل على شياطين الإنس والجن إضلاله ، والخروج به عن منهج الله تعالى .. ولا يمكن بحال من الأحوال للعبد أن يعبد الله على بصيرة بدون العلم الشرعي ولذا كان طلب العلم الشرعي فريضة على كل مسلم وأنتم تعرفون ما ذا تعني كلمة فريضة .. أخرج ابن ماجة في الحديث الصحيح ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " طلب العلم فريضة على كل مسلم .. قال الفضيل بن عياض رحمه الله : كل عمل كان عليك فرضاً ، يصبح تعلمه فرضا بالضرورة ..
ولذلك كان أجر طلب العلم عظيما : عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ، سهل الله له طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " عباد الله : تأملوا الآيات والاحاديث السابقة وانظروا رحمكم الله كيف أن منزلة طالب العلم ، أعلى المنازل ، وأشرف المطالب ، وأعظم الدرجات ، التي يتمناها العبد ، فياله من فضل ما أعظمه ، وياله من أجر ما أوفره ، وياله من ثواب ما أجزله ، كيف لا وقد وعد الله العلماء بتلك العطايا والهبات .
واعلموا عباد الله إن طلب العلم ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول / فرض عين أي واجب على كل مسلم ، ومن لم يتعلمه وهو يستطيع فهو آثم كمعرفة العقيدة الصحيحة وحق الله تعالى على عباده ، ومعرفة أسمائه وصفاته ، ومعرفة معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، واركناها ، وشروطها ، ونواقضها ، وكذلك مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله ، وأيضا بقية اركان الإسلام وما يتعلق بها كأحكام الصلاة واركانها وواجباتها وسننها وواقاتها وكل ما يتعلق بها ، والزكاة وانواعها ومقدارها ولمن تجب ، والصوم احكامه وواجباته وسننه ، والحج مواقيته واركانه وواجباته وكذا تعلم قراءة القرآن الكريم بدون لحن جلي يغير المعنى . كل ذلك من العلم الضروري الذي يجب على المسلم تعلمه ومعرفته ، ولا يسعه الجهل به البتة ، فإن لم يتعلمه مع الاستطاعة فهو آثم معرض للعقوبة ، ولما علم الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى العظيم ، عكفوا على كتاب الله تعالى حفظاً وتعلماً وتعليماً ، فلم يتجاوزوا عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من أحكام وأوامر ونواهي وحلال وحرام . ذلك كان مذهب السلف الصالح وديدنهم رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين أما حال أغلب الناس اليوم فحال يرثى لها للأسف نراهم تركوا التعلم وقصروا في تطبيق السنة بدرجة كبيرة يفعلون ذلك وهم لا يعرفون ولا يدركون مدى جهلهم .. يعتقدون الصواب في عملهم .. لا يكلف الواحد منهم نفسه مراجعة ما حفظه في سنوات الدراسة الأولى وهل ما يزال يحفظه بشكل صحيح أو لا البعض يخطي في التشهد لا يـأتي به كاملا بل إن البعض لا يحسن قراءة الفاتحة .. يتركون الواجبات ويقصرون في الفرائض .. يجهل أحكام الطهارة ، واحكام الصلاة واركانها وواجباتها .. ومناسك الحج والعمرة . والزكاة ومقدارها ولمن تجب .. وما الواجب وما يكره وما يستحب في أغلب ذلك ..
أيها المؤمنون : الذي لا يحسن الوضوء آثم والذي لا يحسن الصلاة .. آثم .. وربما لا تقبل صلاة كما ورد في الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيه فرد عليه السلام ، ثم قال له : ارجع فصل فإنك لم تصل . فرجع فصلى كما صلى ، ثم جاء فسلم علي النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ثم قال : ارجع فصل فإنك لم تصل ، فرجع فصلى كما صلى ، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام , وقال : ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاث مرات ، فقال في الثالثة : والذي بعثك بالحق يا رسول الله ما أحسن غيره فعلمني . فقال صلى الله عليه وسلم : إذا قمت إلى الصلاة فكبر .. الخ الحديث .. وكذا جميع العبادات المفروضة .. تعلمها فرض واجب .. وما هذا التعدي على حدود الله تعالى ، وارتكاب الحرام الذي نراه اليوم إلا ثمرة الجهل المطبق الذي يعيشه الكثير من المسلمين ، يعلمون في كل شيء في السياسة ، في الرياضة ، في الأدب والشعر إلا أمور دينهم أخر اهتماماتهم ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ولو أردنا أن نحصي ما ارتكبه الناس من منكرات وكبائر وعظائم ، ناهيك عن الصغائر لطال بنا المقام ولو علم الجاهلون ما يفوتونه من الأجر العظيم بترك السنن وما يفوتونه بغفلتهم عن بعض الأعمال السهلة في الأداء العظيمة في الأجر . لو علموا ذلك لعضوا اصابع الندم حسرة .
اللهم علمنا ما ينفعنا وبارك لنا فيما علمتنا وزدنا علمنا ينفعنا .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، أحمده حمد الشاكرين، وأثني عليه بما هو أهله، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، وعلى آله وصحبه، وكل من دعا بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد : فإن طلب العلم ونشره من أفضل القربات، التي يتقرب بها العبد من ربه، ومن أبرز الطاعات التي تعلي منزلة المسلم، وترفع قدره عند الله تعالى، ولقد أمر الله عباده بالعلم والتعلم، والتفكر والتدبر، وحذرهم من الجهل واتباع الهوى
أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه ، إذ أقبل ثلاثة رجال ، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد ، قال : فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحَلْقَة فجلس فيها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فأدبر ذاهباً ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه ، وأما الآخر فاستحيا من الله فاستحيا الله منه ، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه .. في هذا الحديث فضيلة طلب العلم والجلوس في حلقات العلم لتحصيله واستماعه وتبيان خطورة الإعراض عن التعلم .
ثم اعلموا عباد الله : إنما العلم بالتعلم ، .. وإن الإنسان لا يعذر بالجهل إذا كان يستطيع أن يتعلم .. عندما تنبه أحدهم بحكم شرعي أو سنة يقول لم أكن أعلم أو لا أدري وكأنه بكلمة لا ادري .. سوف يعذر ويسقط عنه التكليف أو الحكم .
أيها الأخوة الكرام : هناك قاعدة فقيه تقول لا يعذر الإنسان بالجهل إذا كان يستطيع أن يتعلم .. بمعنى أكثر وضوح .. إذا كنت لا تحسن الصلاة مثلا وتستطيع أن تتعلم فأنت آثم . وكذا كل الفروض .. كل فرض تعالمه فرض بالضرورة
قال الشافعي رحمه الله : " طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة
وقال الزهري رحمه الله : " ما عُبد الله بمثل الفقه في الدين
ومما ينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لكميل بن زياد
يَا كُمَيْلُ الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِي هذا واحد ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ النَجَاةٍ هذا الثاني ، وما سوى ذلك فَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ .... فاحذروا عباد الله أن تكونوا من الصنف الثالث فتهلكوا .
أشرنا في الخطبة الأولى إن تعلم العلم ينقسم إلى قسمين وتحدثنا باستفاضة عن القسم الأول وهو فرض العين وهو الواجب على كل مسلم وبقي عندنا القسم الثاني وهو فرض الكفاية : وهو الذي لا يجب على جميع أفراد الأمة تعلمه ، بل إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، كتحصيل الحقوق ، وإقامة الحدود ، ومعرفة دقائق الأحكام في مسائل النكاح والطلاق والبيوع والقضاء وأمثال ذلك ، مما لا يسع جميع الناس معرفته والتوصل إليه ، لأنه ربما ضاعت أحوال الناس ، ونقصت معايشهم ، وتعطلت مصالحهم ، فلابد من تفريغ البعض للقيام بمهمة طلب هذا العلم .. قال تعالى ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ ..
بقي أن نشير إلى أن فضل العلم وطلبه وأن تلك المنزلة الرفيعة العالية الكبيرة لا تقتصر على طلاب الدراسات الشرعية فقط بل يشمل ذلك جميع العلوم والمعارف شرط أن يخلص الإنسان النية لله وأن يكون هدفه طاعة الله ورسوله ونصرة الإسلام بل لا تقتصر على طلاب الدراسات العليا وطلاب الجامعات فقط .. ينضوي تحتها أيضا كل من يعكف على تعلم آية أو حديث أو مسألة شرعية حتى ولو كان في داخل منزله ... اللهم إنا نسألك علماً نافعاً ، وعملاً صالحاً متقبلاً ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وزدنا علماً ينفعنا ، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعاء لا يُسمع .. اللهم نور فقلوبنا بنور العلم .. واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبون احسنه .
هذا وصلوا على نبيكم محمد بن عبد الله فقد امركم الله بذلك في كتابه المبين فقال: (ان الله وملائكته يصلون علي النبي يا ايها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلي اله وصحبه وسلم وارض اللهم عن التابعين لهم بإحسان الي يوم الدين , وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا ارحم الراحمين , اللهم امنّا في اوطاننا واصلح ائمتنا وولاة امورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصُر دينكَ وكتابك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين. اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا سميع الدعاء . اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين. اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في كل مكانٍ ، اللهم اصلح أحوالَهم، واهزم عدوك وعدوَّهم.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بيده إلى البرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه لما فيه صلاحُ العباد والبلاد .
عباد الله : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . أقم الصلاة
التعليقات