ما وراء الجسد ورياضة النفس / حامد علي عبد الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد :
النفس والروح البشرية هي أعظم ما في الوجود ..
محروم ذلك الشخص الذي لا يعرف عنها شيئا .. ومحروم ذلك الشخص الذي لم يحاول اقتحام عوالمها والغوص في أعماقها والضياع في دهاليزها واكتشاف اسرارها والترقي بها إلى معارج الأولياء وآفاق الأصفياء ..
مشاعر لا توصف .. سعادة لا توصف .. قوة لا توصف .. رضى لا يوصف ..
لا أقصد النفس والروح في مفهومها التكويني .. فهذا مستحيل .. قال تعالى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
أنا أقصد آثارها وتجلياتها وإضاءاتها ونواتجها ومخرجاتها ودورها الكبير على مطيتها الجسد وتأثيرها الفاعل على الأعضاء والحواس .
دعوني أقرب لكم الموضوع وأوضح لكم المقصود ..
المشاعر كلها تأتي من الروح من داخل النفس البشرية .. السعادة .. الحزن .. الفرح .. الرضى ..
بالروح .. تشعر بالرضى وأنت في قمة المأساة .. وبدون الروح تشعر بالضيق وأنت في سعة .
بالروح .. تشعر بالسعادة العميقة .. وركزوا على كلمة العميقة .. وأنت لا تملك شيئا وبدون الروح تشعر بالتعاسة مع كل ما تملك .
كلمة العميقة هو ذلك الشعور .. المستمر والمتنامي الذي يشع بهجة من الداخل البعيد ..
بالروح .. لا تحس بالألم مع أشد الأمراض عتوا .. وبدون الروح تعاني من وخزة الإبرة .
محروم من لم يلتفت إلى روحه ويكتشف اسرارها ويتعلم كيف يستفيد منها
محروم من لم يتمتع بها وبما حباها الله من مميزات خارقة .
لله جنة في الدنيا من لم يدخلها لن يدخل جنة الله في الأخرة .. لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .
كلمات عظمية جدا .. أعيدوا قراءتها وتأملوها ..
هذا العبارات لم تأت من فراغ ..
الجسد .. ما هو إلا مركبة .. عبارة عن سيارة .. جسم .. هيكل .. مطية .. السر وكل السر في الروح ..
عندما تنام تنطلق الروح .. وربما تُعاني من الكوابيس وغيرك يُنعّم بجانبك .. كل في فلك يسبح .. عالم عجيب .. سبحان الخلاق العظيم
عندما تسرح بخيالك أيضا تنطلق الروح .. وربما تبتسم لا شعوريا .. وربما تتجهم لا شعوريا ..
عندما .. يدخل المريض في غيبوبة تنطلق الروح أيضا وربما يعيش فيها أياما وأيام لا يشعر بأحد ممن حوله . في عوالم أخرى
عندما تدخل في سكرات الموت تنطلق الروح قال تعالى : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ .. وقال تعالى : لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ
ما هو الغطاء الذي أنكشف .. وأي عالم جديد يراه المحتضر .؟؟؟
عندما تموت .. تنطلق الروح الانطلاقة النهائية بدون رجعة .
تخيل تلك اللحظات بمعمق .. لحظات عند ذكرها تقشعر الأبدان .
....
هنا سؤال يفرض نفسه وبقوة ..
هل هناك رياضة تساعد على الغوص في أعماق النفس وتهذيبها والترقي بها إلى درجات متقدمة والوصول بها مثلا إلى الأمان
ماهي درجة الأمان ؟ .. إنها درجة الأولياء الذين قال الله تعالى عنهم :
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
هل تعلمون ماذا يعني لا خوف عليهم .. ولا هم يحزنون ..
ليس هناك شيء لا تعنيه هذه الآية .. إنها تعني كل شيء !!!
لا خوف مطلقا .. يعني أمان مطلقا .. لا حزن مطلقا يعني فرح مطلقا
تآملوها .. أليست أمنية كل عاقل ..
هل ذلك مستحيل ؟
هل اشترط لذلك الجاه والملك ؟ ... هل اشترط لذلك العبقرية والذكاء الخارق ؟.. هل اشترط الدراهم والأموال ؟ .. هل اشترط الجمال ؟ .. هل اشترط الفصاحة ؟
أبدا .. ليس هناك أي شروط .
ليس مستحيلا .. ولكنه بالتأكيد ليس سهلا .. العملية متعلقة بالنفس والروح وعندما نقول النفس والروح هذا يعني أن هناك ما وراء الجسد ... هناك أمور لاشعورية .. غير محسوسة .
حصلتَ على أعلى الشهادات .. جميل .. وبعدين .. للأسف بدون الروح أنت لم تحصل على شيء .
أصبح عندك أملاك وعقارات وأموال ... طيب ... وبعدين .. للأسف بدون الروح أنت لم تحصل على شيء
أصبحتَ مديرا أو رئيسا .. أحسنت .. وبعدين .. للأسف بدون الروح أنت لم تحصل على شيء
محروم ذلك الشخص الذي لا يعرف عن روحه شيئا .. ومحروم ذلك الشخص الذي لم يحاول اقتحام عوالمها والغوص في أعماقها والضياع في دهاليزها واكتشاف اسرارها والترقي بها إلى معارج الأولياء وآفاق الأصفياء ..
متى ؟ .. أين ؟ .. كيف ؟
لم تأت عزلة النبي صلى الله عليه قبل البعثة في غار حراء .. من فراغ ..
لم تأت رحلة موسى.. وذهابه لميقات ربه .. أربعين ليلة .. من فراغ
فالخلوة والتأمل سمة الرسل والأنبياء والأولياء .. إنها تجلو الغشاوة التي تخلفها الحياة المادية على الروح .
التأمل رياضة روحية عجيبة .. وكثيرة هي الآيات التي وردت في القرآن الكريم .. تحث على التدبر والتأمل في خلق الله وسننه .
ومن أجلّ وأنفع أنواع الخلوات والتي لم يتركها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعون ولا الصالحون .. الاعتكاف في المساجد .. وهي سنّة مهجورة للأسف في زماننا هذا .. واصبحت مقتصرة على رمضان .. وبشكل مشوّه للأسف.. خلوة مع الجوال لا تسمى خلوة .
الاعتكاف .. صورة من صور الخلوة والعزلة .. وليس له شروط .. كما يظن البعض .. بعد صلاة الصبح إلى الشروق اعتكاف .. بعد العصر إلى المغرب اعتكاف .. ما بين المغرب والعشاء اعتكاف ..
قيام الليل والتهجد والمناجاة .. سره عجيب .. وفوائده عظيمة جدا للصفاء النفسي والكشف الروحي .
الصيام .. رياضة بدنية وروحية في نفس الوقت ..
الذكر والاستغفار وقراءة القران مع حضور القلب .. هو اللب وهو المحور ... قال تعالى : فاذكروني أذكركم .. . إذا ذكر ملك من ملوك الدنيا أو أمير أو وزير شخصاً بعينة طار فرحا .. فكيف بنا إذا ذكرنا ملك الملوك ..
الخلاصة ..
اعلموا أن كل ذلك لا يصح ولن يتم ولن يبلغ المسلم أدنى درجات الترقي الروحي إلا إذا تحقق الآتي :
ــ المحافظة على الفرائض كما فرضها الله .. فمن السخف والبلاهة مثلا أن تقوم الليل وأنت مقصر في أداء إحدى الصلوات الخمس المفروضة . ورد في الحديث إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة .. الخ
ــ ترك الفضول بكل أنواعه : ومن ذلك السمع والبصر .. منظر لا يعنيك لا تلتفت إليه .. خبر لا يهمك لا تنشد عنه ..
واحذروا فضول الكلام وآفات اللسان .. فإنه أخطر ما يكون .. ولشدة خطورته نجد أن أقوى انواع الصوم وأكثرها تأثير هو الصوم عن الكلام ..
قال تعالى على لسان مريم عليها السلام : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا
وقال تعالى : قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا
ــ وحتى تصل إلى أول السلم الروحي لا بد لك من التورع والتقوى .. فتترك الذنوب صغيرها وكبيرها .. بل أكثر من ذلك تترك الشبه بل أكثر من ذلك تترك المبالغة في الترف حتى ولو كان مباحاً .
إن فعلت ذلك .. فأنت جاهز الآن للبدء .. فانطلق على بركة الله ولا تترك شيئا أبدا يقربك من الله مهما صغر حتى تفعله .. ولا تترك شيئا يبعدك عن الله مهما صغر حتى تتركه .
هذا والله اعظم وأعلم
ملاحظة مهمة جدا :
كلامي هذا لا يعني أنني ازعم أو أنسب إلى نفسي أنني حققت شيئا من ذلك فأنا أبرأ إلى الله من ادعاء ما ليس فيّ أو تقمص شخصية لستُ أهلا لها . فأنا أضعف وأعجز من ذلك .. ماهي إلا خاطرة كتبتها لنفسي أولا ولمن هم على شاكلتي في التقصير لعلنا يوما من الأيام نلحق بالركب .
أحب الصالحين ولست منهم ..... لعلي أن أنال بهم شفاعة
واكره من تجارته المعاصي ... وإن كنا سواء في البضاعة .
أو كما قال الآخر
خذ من علومي ولا تنظر إلى عملي .... واقصد بذلك وجه الواحد الباري
وإن مررت بأشجار لها ثمر .... فاجن الثمار وخل العود ( للباري )
نعوذ ونستجير بالله من النار وحميمها ..سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين الحمد لله رب العالمين .
كتبها / حامد علي عبد الرحمن
التعليقات